موقع Allah Mahabba – قَداسَةُ فرَنسيس، إنسانِيَّةٌ بَلَغَت نُضجَها
كَثيرًا ما قُدِّمَت لنا سِيَرُ القِدِّيسينَ عَلى نَحوٍ كَبيرٍ مِنَ المِثالِيَّة، لِدَرَجَةٍ بَاتوا هُم كَالجِبالِ الشَّاهِقَة الَّتي تُناطِحُ غُيومَ السَّماء، وَنَحنُ بِمَثابَةِ حَبَّاتِ رَملٍ صُغَيَّراتٍ على شَواطِئِ الحَياة. كَم أَدَّى فينا هذا الأَمرُ إِلى حالَةٍ مِنَ الإِحباطِ الرُّوحيّ، لِيُثبِطَ عَزمَنا، فَنَدخُلَ في كَمينِ التَّجرُبَة؟!
لَم تَكُن فَقَط دَعوَةُ القِدِّيسِ فَرَنسيسِ الأَسّيزيّ نَقلَةً نَوعِيَّةً وَكَبيرَةً في نَهجِ الحَياةِ الرُّهبانِيَّة وَحَسبُ، مِن حَيثُ الإِنتِقال مِن حَياةِ جَماعَةٍ دَيرِيَّةٍ وَنُسكِيَّةٍ تَقليديَّةٍ مُغلَقَة، إِلى حَياةِ إِخوَةٍ مُرسَلينَ في العالَمِ يَتَقاسَمونَ حَياةَ الأَصاغِرِ وَالفُقَراءِ وَالمُهَمَّشينَ وَيَعيشونَ مِنَ التَّسَوُّلِ وَالعَمَلِ اليَدَويّ، جاعِلينَ مِنَ العالَمِ حِصنًا كَبيرًا لَهُم.
ميزَةُ حَياةِ القِدِّيسِ فَرَنسيس عَلى الرُّغمِ مِنَ المِثالِيَّة الحاضِرَة في سِيَرِه، أَنَّها تُقَدِّمُ لَنا مَسيرَةَ إِنسانٍ بَحَثَ عَن اللهِ وَالتَقاهُ في صَميمِ حَياتِهِ وَتاريخِه، وَنَما بِشَكلٍ تَدريجِيٍّ لَولَبيٍّ بِالنِّعمَةِ وَالفَضيلَة، عارِفًا الإِنكِسارَ وَالسُّقوطَ كَما الشِّفاءَ وَالنُّهوضَ على مَدارِ أَيَّامِه.
فَرَنسيس إِبنُ العائِلَةِ البُرجوازِيَّة، وَالمُرهَفُ الإِحساسِ وَالمُحِبّ للرَّفاهِيَّةِ وَللسَّهَر، لَم يَكُن يَحتَمِل رُؤيَةَ الفُقَراءِ وَالبُرصِ وَالمُهَمَّشينَ، فَهؤلاءِ يُقلِقونَ راحَتَهُ المُزَيَّفَة. فَرَنسيسُ الإِبن المُدَلَّل عِندَ والِدَيهِ وَفي المدينَةِ، كانَ يَرى في عِنايَةِ وَاهتِمامِ الآخَرينَ بِهِ فَخرًا وَاعتِزازًا في نَفسِه، فَالعَيشُ بِالفَقرِ والتَّسوّل حُبًّا بِاللهِ يَسلُبُهُ مَديحَ العالَم.
فَرَنسيسُ الطَّامِحُ إِلى بُلوغِ مَقامِ الفارسِ النَّبيلِ في المُجتَمَع، يَغدو أَخيرًا خادِمًا للَّذي صَارَ كَالأَبرَصِ عَلى الصَّليبِ وَهوَ الحاضِرُ في إِخوَتِهِ الصِّغارِ المُهَمَّشينَ وَالمُنتَشِرينَ في الضَّواحي.
ارتَبَطَ التَّحَوُّلُ الجَذريّ الَّذي عَرَفَهُ فَرَنسيس بِثَلاثَةِ أمورٍ: رَغبَةُ قَلبٍ صادِقَة، نِعمَةٌ إِلَهِيَّةٌ فاعِلَة، وَقِراءَةٌ لِأَحداثِ التَّاريخ وَجَوابٌ عَلَيها.
مِن هُنا سَنَتَوَقَّفُ عِندَ نِقطَتَينِ لِنُبَيِّنَ مَسيرَةَ فَرَنسيس الإِنسانِ نَحوَ النُّضجِ الرُّوحيّ وَالقَداسَة:
[1] البَحثُ عَن مَشيئَة الله: لَقَد سَعى فَرَنسيس لِأَن يُحَقِّقَ ذاتَهُ وَفقًا للصُّورَةِ الَّتي قَدَّمَها لَهُ مُجتَمَعُهُ وَوالِدُهُ وَالَّتي أَحَبَّها عَن نَفسِهِ وَهيَ صورَةُ الفارِس، لَكِنَّ أَحداثَ الحَياةِ وَخِبرَةَ السِّجنِ لِسَنَةٍ مَعَ المَرَضِ، وَتَمَعُّنَهُ في الإِصغاءِ لِمَن هُوَ الأَفضَل ما بَينَ السّيّد-الغَنيّ وَالعَبد-الفَقير، جَعَلَهُ يَنفَتِح على الله وَيَسعى لِفَهمِ مَشيئَتِهِ. وَلَمَّا سَمِعَ نِداءَ تَرميمِ الكَنيسَة فَهِمَهُ عَلى مُستَوىً مادّيّ فَظَّلَ لِسَنَتَينِ يَعمَلُ بِيَدَيهِ على تَرميمِ ثَلاثِ كَنائِس؛ لَقَد كانَ فَهمُهُ مَحدودًا، لَكِنَّ عامِلَ الوَقتِ مَعَ مُثابَرَتِهِ عَلى التَّأَمُّلِ وَالصَّلاةِ وَالإِصغاءِ لِكَلِمَة اللهِ، جَعَلَتهُ يَكتَشِف أَخيرًا مَشيئَةَ اللهِ عَلَيهِ في صَميمِ رَغبَةِ قَلبِهِ.
مِن هُنا نَتَعَلَّمُ كَيفَ يَمضي مَعَنا الرَّبُّ في مَسيرَتِنا نَحوَهُ هُوَ الطَّويلُ الأَناةِ وَوافِرُ الرَّحمَة.
[2] قُبول الآخَر المُختَلِف: بَدَأَ فَرَنسيسُ بِشَكلٍ تَدَرُّجيٍّ يَنفَتِح عَلى حُضورِ اللهِ في الإِنسان، فَمَعَ الفَقيرِ الَّذي قَرَعَ بابَ المَتجَر، اتَّخَذَ قَرارَ استِضافَةِ مَن يُناديهِ “حُبًّا بِالله“، وَمَعَ لِقائِهِ الأَبرَص لَمَسَ وَجهَ المَسيح الفَقير، وَهذا بَعدَ صِراعٍ قَويٍّ مَعَ نَفسِه، وَمُقاوَمَتِهِ لِعاداتِ تَربِيَتِهِ وَمَفاهيمِ مُجتَمَعِهِ، لَكِنَّهُ أَخيرًا اعتَنَقَ فِكرَ الإِنجيل.
وَإِذا نَظَرَنا إِلى عَلاقَتِهِ مَعَ والِدِهِ بَعدَ ارتِدادِهِ، نَجِدُهُ يُقاسِمُنا ما نَعيشُ مِن خِلافاتٍ في بُيوتِنا وَعَدَمِ فَهمٍ مِن ذَوينا، لَكِنَّهُ عَلى الرُّغمِ مِن اضطِهادِ والِدِهِ لَهُ، وَمَع خَيارِ انتِمائِهِ المُطلَق للآبِ السَّماويّ، حَفِظَ في قَرارَةِ نَفسِهِ المَحَبَّةَ وَالغُفران.
لَم تَكُن خِبرَتُهُ مَعَ مَشورَةِ العِفَّةِ بِالأَمرِ السَّهل، لَطالَما صَارَعَ حَتَّى بَذل الدَّمِ في مُواجَهَتِهِ لِأَهوائِهِ، كَما سَمَّى جَسَدَهُ بِالحِمار، إِلى أَنَّهُ قُبَيلَ مَوتِهِ تَصالَحَ مَعَهُ طالِبًا مِنهُ المَغفِرَة.
هُوَ الَّذي اعتَنَقَ روحَ الفَقرِ الإنجيليّ إِلى أَقصى حُدودِه، عَرَفَ حُبَّ التَّمَلُّك وَشَرَّ الإِرادَةِ الذَّاتِيَّة الَّتي هُوَ نَفسُهُ حَذَّرَ مِنها، فَيَومَ عَصَفت رِياحُ التَّغييرِ في قَلبِ رَهبَنَتِهِ أَرادَ بِالقُوَّةِ أَن يَفرُضَ رؤيَتَهُ، وَلَمّا عَرَفَ خَيبَةَ الأَمَلِ، بَعَدما انعَزَلَ عَنِ الإِخوَةِ لِمُدَّةٍ مِنَ الزَّمَن، حَرَّرَهُ الرَّبُّ وَشَفاهُ بِكَلِماتِهِ العَذبَة فَعَرَفَ الفَرَحَ الحَقيقيّ، لِيَتَمَكَّنَ مِن أَن يُطيعَ آخِرَ مُبتَدِئٍ يَدخُلُ الرَّهبَنَة، فَتَنَازَلَ بِمِلءِ حُرِّيَّتِهِ عَن السُّلطَة، وَهو مَوسومٌ بِسِماتِ المَسيحِ المَصلوب… .
مَعَ فَرَنسيس الفَقيرِ الصَّغير، نَكتَشِفُ أَنَّ القَداسَةَ الَّتي يُريدُها الرَّبُّ لَنا، هِيَ تُنسَجُ في صَميمِ صَميمِ إِنسانِيَّتِنا حَيثُ نَختَبِرُ الضّعفَ وَالهَشاشَة، وَحَيثُ نَعرِفُ خَيباتِ الأَمَلِ، بِالإِضافَةِ إِلى ما نَعيشُ مِن صِراعاتٍ إِيمانِيَّةٍ وَوجودِيَّة عَلى مُستَوى العَقلِ وَالعاطِفَة، وَما تُرَتِّب مِن تَبِعاتٍ عَلى النَّفسِ وَالجَسَدِ وَالرُّوح، وَتُؤَثِّرُ عَلى نَوعِيَّةِ عَلاقاتِنا الإِنسانِيَّة.
في مَدرَسَةِ فَرَنسيس نَتَعَلَّمُ كَيفَ تُصقَلُ إِنسانِيَّتُنا بِالقَداسَة، ما إِن يَملِكُ يَسوعُ الفَقيرُ وَالمَصلوبُ عَلى قُلوبِنا.
تابعوا قناتنا
https://www.youtube.com/channel/UCWTL4VXQh38PrPBZvVSZGDQ
شكراً لزيارة موقعنا وقراءة مقالة “قَداسَةُ فرَنسيس، إنسانِيَّةٌ بَلَغَت نُضجَها”. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعتنا على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك، انستغرام، يوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت، وأن يعطيك نعمة القداسة من صميم إنسانيّتك مع كلّ جروحها وضعفها وهشاشتها، على مثال قَداسَةُ فرَنسيس الأسيزي، فيملِك يسوع الفقير والمصلوب على قلبك.