الكلمة أصبح صرخة – موقع Allah Mahabba
الألم كالجمال، يعجز العقل عن سبر سرّه، ليكشفَه للعلن، ويظهر مكنوناته على مستوى العقل والمنطق. فكما عجزت المعَاجم عن تعريف الجمال، عجزت بدورها عن تعريف الألم. حدّة الألم المعنوي على غرار الألم الجسدي قد تتسبّب بموت الجسد؛ وما يُثير العجب، أنّ حدّةَ الألم المعنوي قد تتساوى أحيانًا، بين أمٍّ خسرت ابنتَها، وفتاةٍ صغيرة خسرت دميتَها، فدموع الاثنتينْ صادقة ونابعة من قلب مجروح.
يغيب المنطق عن الألم ولذلك يَستعصي علينا فهمه. يُعبّر العقل عن الألم بتأوّهٍ، وأنينٍ، وبصرخة آخٍ… تلك الصرخات الّتي بلغت الملء بتلك الصرخة المدوّية والعظيمة التي “صرخها” يسوع، الله، ابن الله، على الصليب، وبها أسلم الروح. يسوع الّذي قال عنه يوحنّا أنّه “ألكلمة” “لوغوس”، يُخبرنا مرقس أنّه اتّحد بنا، اتّحد بآلامنا، إلى حدّ أنّ الكلمة، غدا صرخةً ترفع جميع تنهّدات الإنسان، وكلّ آلام البشر إلى الله الآب.
الله الّذي سمع صراخ شعبه الرازح تحت نير فرعون، فشقّ البحر وأخرجه من عبوديّة مصر إلى أرض الوعد؛ ألا يُدحرج الحجر عن “باب القبر” ويفجّر أبواب الجحيم، عند سماعه صرخة ابنه الوحيد المساوي له في الجوهر، الحامل في جسده صراخ آلام جميع البشر؟
مشاهدٌ ثلاثة ستساعدنا على الدخول أكثر في سرّ الألم.
المشهد الأوّل: البيولوجي
الألم البيولوجي، هو نتيجة تفكّكٍ يُصيب الخلايا. إن غاب التناغم بين خلايا الجسم وتناحرت فيما بينها، إن بالسيطرة، عندما تقتل خليّةٌ مريضةٌ بالكورونا الخلايا السليمة، أو بالعزل، بحيث لا يصل الأوكسيجين إلى الخلايا بسبب التهاب الرئة، عندها يحدث ما نعبّر عنه بكلمة “الألم”.
إذًا السبب الأساسي هو غياب الشركة والعلاقة بين مختلف خلايا الجسم.
الكتاب المقدّس، وسفر التكوين على نحوٍ خاصّ، يُظهر وجود رباط “أنطولوجي” (أي أساسي) بين الخطيئة والألم. فالخطيئة، هي انفصال الإنسان عن الله على مستوى “أنطولوجي” (أي جوهري)، وهذا الانسلاخ الوجودي يتسبّب بجرح في الإنسان، في “شخصه” أي كونه علاقة. كلمة “شخص” في اللاهوت المسيحي الآبائي تعني علاقة، أي المقدرة على الدخول بعلاقة حرّة مع الآخر، تحت شكل إخلاء الذات، أي على مثال العلاقة الّتي نجدها بين الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد.
إذًا، الخطيئة، بفصلها الإنسان عن الله، تولّد ألمًا وجوديًّا، إذ يغدو غريبًا عن ذاته، فردًا، وحيدًا، عاجزًا عن الدخول بعلاقة حرّة مع الله، ومع ذاته، ومع أخيه الإنسان.
ينبّه الأسقف الأرثوذكسيّ “يوحنّا زيزيولاس” بأنّ الخطيئة ليست على مستوى أخلاقي فقط، أي ليست على مستوى “الفعل” بل على المستوى الأنطولوجي (أي على مستوى جوهر الإنسان). بمعنى آخر، لا تقتصر على القيام بأعمال خيّرة أو بأعمال شرّيرة، بل على مستوى الكينونة، أي أن يكون الشخص محبّة على صورة الله كمثاله، أو لا يكون. هنا لا بدّ من التمييز، بين الله-محبّة والإنسان-المحبوب. حبّ الله “فاعل”، في حين حبّ الإنسان “متلقٍّ”، ويُعبّر عنه بكلمة أفخارستيّا (نتوسّع بهذا التفصيل بالمقال حول معنى الإفخارستيّا).
يستعيد الإنسان شخصه، بقبوله واستقباله للّه-المحبّة. هذا هو العماد.
إذًا الألم، نتيجة غياب العلاقة.
المشهد الثاني: أيقونة الثالوث
كُتِبَت أيقونة الثالوث كجوابٍ على الألم. كتب “أندريه روبلاف” هذه الأيقونة، عندما اجتاح المغول روسيّا، وحرقوا المدن، وقتلوا بوحشيّة ألوف النساء والأطفال والرضّع.
تُكتب الأيقونة، استنادًا لأشكال هندسيّة محدّدة، وأحد الأشكال الّتي بُنيت عليها أيقونة روبلاف الشهيرة هو الصليب. إذًا الثالوث هو الجواب على الألم، والصليب يرمّم هذه العلاقة بين الثالوث الأقدس-الله والإنسان.
لكن كيف باستطاعة أداة الألم والموت أن تغدو وسيطًا للشركة بين الإنسان المخلوق والخالق؟
كلّ نثرةٍ من الصليب، تجسّد شرًّا من شرور البشر: الظلم، القتل، الفساد، الخيانة، الأنانيّة، البخل، العنف… توهّن الصالبون، حين ظنّوا أنّ وحشيّة الصليب ستدفع بيسوع إلى التنازل عن المحبّة، وإلى فضّ الشركة الّتي تجمعه بالإنسان، وبأبيه. ظنّوا أنّ عبثيّة آلام الصلب، سترغمه على إنكار بنوّته للآب، وحبّه للإنسان. وإذا بالصليب كلّما لامس المحبّة، ذاك الجسد الممزّق، واستقى من دمائه، تحوّل من صليب هلاكٍ إلى صليب فداءٍ، ومن أداة تفرقة، وانقسام، إلى وسيطٍ للشركة والمحبّة.
المشهد الثالث: من الشهود
التساؤل الأخير الذي سنسعى إلى الإجابة عنه: كيف علينا أن نحيا الألم؟
غالبًا ما يدفعنا الألم إلى الهروب إمّا إلى ماضٍ جميل، أو إلى مستقبل من صنيعة المُخيّلة، فيعزلنا عن واقعنا، وأحبّائنا، وعن الحياة بحدّ ذاتها.
أمّا يسوع، بجسده الممزق من الجَلْدِ، ويديه ورجليه المسمّرتين، ورأسه الّتي غرست فيه نثرات الشوك، فيحيا الألم بمحبّة وشركة مع الآخرين. فإذا به، يغفر لصالبيه، ويُعنى بأمّه وتلميذه الحبيب، ويصلّي إلى الآب المزمور 22.
يُعلّمنا يسوع أن الألم يُواجَه بالحبّ. يجب ألّا نسمح له أن يفصلنا عن واقعنا، عن جسدنا، عن أحبّائنا، عن الله أبينا. الألم لا ينتصر، إلاّ إذا خسرنا المحبّة.
وها معلّمة الألم، رفقا، ابْنَةُ وطننا المصلوب والناجية من مجازر دير القمر، خير مثالٍ لنا. انتصرت رفقا بمحبّة يسوع، وعشق المصلوب، على الآلام الّتي استنفدت جسدها، لكنّها لم تنل من إرادتها بالحُبّ، ولم تتمكّن من استعباد حريّتها. سلاحها الوحيد، تلك الصلاة الّتي سكبت فيها عُصَارَةَ اختبارها مع المصلوب: “مع آلامك يا يسوع”.
في الختام. الكلمة صار جسدًا، صار ألمًا، صار صرخةً، حمل في شخصه من خلال الطبيعة الإنسانيّة، كلّ آلام البشر، وصرخ، وأسلم الروح…
والآب سمع واستجاب.
تابعوا قناتنا
https://www.youtube.com/channel/UCWTL4VXQh38PrPBZvVSZGDQ
شكراً لزيارة موقعنا وقراءة مقالة “الكلمة أصبح صرخة”. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعتنا على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك، انستغرام، يوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت، وأن تعيش آلامك باتّحادك مع آلام المسيح، منبع الحبّ الوحيد.