عظة سيادة المطران يوحنا رفيق الورشا
قدّاس على نيّة لبنان في بازيليك ضريح القدّيسة ريتا في كاشيا – إيطاليا، الثلاثاء 11 أيّار 2021
«أيَّتُهَا المَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين» (متى 15: 28)
Reverendissimo Don Luciano, Rettore di questo Santuario di Santa Rita
آبائي الأفاضل، إخوتي وأخواتي الأعزّاء، والذين يتابعوننا عبر مواقع التواصل الاجتماعي،
مع إخوتي آباء المعهد الحبري الماروني في روما، وهم يختمون رياضتهم الروحية، حول كيفية عيش فضائل القديسة ريتا في الحياة الكهنوتية، أرفع الشكر للربّ في هذه الذبيحة الإلهية – وهي المرّة الأخيرة في سلسلة القداسات المتتالية الشهرية التي نظّمها الأب لوشيانو رئيس المزار – على كلّ نعمه التي يفيضها علينا، وعلى نعمة وجودنا بحضرته تعالى وتحت نظره في هذا المزار المقدّس، المكرَّس لتكريم القديسة ريتا. هذه القدّيسة العظيمة والغنيّة بالفضائل، تحتلّ قلوب الكثيرين من المؤمنين والمؤمنات في العالم، وبخاصة في لبنان، وقد توافدوا إليها عبر التاريخ أفواجًا أفواج، ملتمسين من الربّ بشفاعتها مطالب شتّى، هي شفيعة الأمور المستحيلة، وبإيمان عميق يقينًا منهم بقدرة الربّ الفائقة راجين ان ينتشلهم من كبواتهم ومصائبهم.
من نواحي صور وصيدا، في لبنان، توسّلت امرأة كنعانية إلى الربّ يسوع بإيمان عميق، لشفاء ابنتها وتحريرها من الشيطان الذي يعذِّبها. ونحن من لبنان، نصرخ إلى الربّ يسوع أن يحرّرنا من الشّر والأشرار قائلين: “ارحمنا يا ابن داود! وطننا لبنان يتعذّب”.
إذا ما تأمّلنا مليًّا في المسيرة الإيمانية للمرأة الكنعانية من خلال ما حدث معها بحسب إنجيل متى الفصل الخامس عشر، يتجلّى لنا بوضوح نضجها الإيماني عبر أبعاد تنمّ عن إصرارها على تحرير ابنتها من الشّر، وعن ثقتها بقدرة الربّ يسوع. لقد ظهر ذلك الإيمان في أقوالها ومواقفها وثباتها دون الرجوع إلى الوراء؛ إيمان صارخ عنيد – والعناد في منحاه الإيجابي – الذي من خلاله لا تلتمس إلّا رحمة الربّ وخلاصه.
خَرَجَتْ تَصْرُخُ وتَقُول: «إِرْحَمْني، يَا رَبّ، يَا ابْنَ دَاوُد! إِنَّ ابْنَتِي بِهَا شَيْطَانٌ يُعَذِّبهَا جِدًّا». فَلَمْ يُجِبْهَا بِكَلِمَة.
لقد “خرجت المرأة الكنعانية تصرخ”، ولهذا الصراخ ابعاده العميقة في الكتاب المقدس، إن في العهد القديم أم في العهد الجديد. نراه عند صاحب المزامير الذي يستعمل هذه اللفظة في صلوات اليهودي الذي يصرخ إلى الله من الأعماق في ظروفه الحالكة والصعبة: يا رب إليك صرختُ أسرع إليّ”… “أصغْ لصوتي حين أصرخ إليك”… “صرخت إليك يا ربّي قلتُ أنت معتصمي أنت حظّي في أرض الأحياء”… إنّها صرخة المصلّي المؤمن، وهي تعكس وجعه ومعاناته وأنينه، وهو يكشفها للربّ، كما هي، وبكلّ عفوية، متضرّعًا إليه دون أن يخبِّئ شيئًا. يخبر الربّ ما يخالجه من أفكار ويحدث في حياته من صعوبات وأزمات لا تزيلها إلّا قوّة الربّ الشافية والمخلّصة والمحرّرة. كم هو مهمّ في حياتنا الروحية أن ندرك كيف نصرخ صرخةً عميقة تنبع من القلب، كأعمى أريحا في العهد الجديد، وصرخة الربّ يسوع في بستان الزيتون ومن على الصليب، كاشفين ذواتنا بشفافية أمام الربّ، كما لو كنا نستعطي منه الخلاص والحياة. تعالوا نصرخ صرخة وجعنا وآلامنا لِما يحدث من حولنا في العالم وبخاصّة لما يحدث في لبنان من مصائب وانهيار وأفق مسدودة لا يزيلها إلّا الرب صخرة خلاصنا ورجاؤنا الذي لا يخيِّب آمالنا وسؤلنا.
إخوتي وأخواتي الأعزّاء، كما يصرخ الطفل إلى أمّه عندما يجوع أو يعطش أو عند اضطرابه علّه يشعر بالأمان والاستقرار، هكذا يصرخ كلٌّ منا إلى الله الآب الحنون شاكيًا باكيًا يطلب بإلحاح التخلّص من حالة صعبة ما، تسكّرت أفق الحلول أمامها.
أَمَّا هِيَ فَأَتَتْ وسَجَدَتْ لَهُ وقَالَتْ: “سَاعِدْنِي، يَا رَبّ”: إنّ الايمان فعلُ تحدٍّ لكل المعاكسات والتجارب. فعلى الرغم من موقف التلاميذ السلبي بحق المرأة الكنعانية – إذ رغبوا في حلحلة أمرها فقط لتسكت، وبعد عدم جواب يسوع بحسب الانجيلي متى كان الحاحها ملحوظًا وثقتها وطيدة بقدرة الرب يسوع بحيث أتت فسجدت وقالت: “ساعدني يا رب”. إنّ فعل السجود الذي قامت به ليس الا اعترافًا ايمانيًّا بألوهية المسيح على الرّغم من كلّ تشكيك في هذه الحقيقة من قريب او من بعيد. يا حبّذا لو نسجد جميعًا للمسيح الربّ – الإله، واضعين على قدمَيه كلّ ما ينتابنا من محن وتجارب وعواصف متوسّلين مع الكنعانية: “ساعدنا يا رب”.
حِينَئِذٍ أَجَابَ يَسُوعُ وقَالَ لَهَا: «أيَّتُهَا المَرْأَة، عَظِيْمٌ إِيْمَانُكِ! فَلْيَكُنْ لَكِ كَمَا تُريدِين». وَمِنْ تِلْكَ السَاعَةِ شُفِيَتِ ابْنَتُهَا.
نادرون هم الذين حظَوا بتهنئة الربّ لهم على إيمانهم إلى هذا الحدّ: “عظيمٌ إيمانك”. ليس من السهل لامرأة كنعانية تعتنق الدّين الوثني الذي يؤلّه الشمس والقمر وقوى الطبيعة… أن تقوم بهذه الخطوة النوعيّة الجبّارة في اختبارها الإيماني، لتعبر إلى يقين الإيمان بإله حيّ، يحاور، يسمع، يتكلّم، يرى، يعضد… وليس جامدًا كما يبدو في الوثنية. هو يستجيب حتى ولو بدا صامتًا ولم يجب بكلمة كما فعل مع الكنعانية.
إنّ هذه الأبعاد الإيمانية يجب أن تكون حاضرة في حياة كلّ مؤمن ومؤمنة. إنّ القدّيسة ريتا قد عاشت هذا الإيمان بمثابرتها على الصلاة وأفعال التقشّف والإماتات، وفي اتّحادها العميق بيسوع المصلوب مشركة آلامها بآلامه، وفي غفرانها لقاتلي زوجها متمثّلة بيسوع على الصليب إذ غفر لقاتليه قائلاً: إغفر لهم يا أبت لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون… فكانت صانعة سلام في عائلتها ومجتمعها. فالإيمان هو ثقة بقدرة الربّ، وإصرار وإلحاح في الصلاة؛ مثابرة على إيمان مقرون بأعمال ومواقف ومبادرات دون فقدان الأمل، بل التأكّد من أنّ الربّ قادر على كلّ شيء، وهو لا يخيِّب، غير أنّه يختار الوقت المناسب لتحقيق رغبة المؤمن إذا تلاقت مع رغبة االله وإرادته. أو ليس هو مَن قال: “من يسأل ينل، من يطلب يجد، ومن يقرع يُفتح له” وفي مكان آخر: “إذا كان لكم إيمان قدر حبّة الخردل، تنقلون جبلًا من مكان إلى آخر”؟
غالبًا ما نشكو في صلواتنا: لماذا لا يستجيب الربّ؟ متى يحين الوقت ليفقتدنا؟ سئمنا من الحروب والأزمات في لبنان. وهل قُدّر لنا وحدنا أن نحمل الصليب؟ متى سيُرفع الظلمُ عن شعبنا؟ متى سيتبدّد الفساد المستشري وتتطهّر البلاد من الأنانيات والمماحكات والخفّة والحسابات الضيّقة الرخيصة؟ متى سيتصالح رجال السياسة والشأن العام مع المعنى السامي للعمل السياسي الذي أُفرغ من قيمه الأخلاقية السامية والموضوعية؟ متى سيصبح الخير العام الذي يحتوي العدالة، وحقوق الإنسان، والسلام… شعارَ كلّ مَن يتولّى المسؤولية في وطننا المجروح؟ متى ستصبح السلطة خدمةً وتواضعًا وانحناءً بحيث تتحرّر من الفوقية والسفقات والظلم والاستبداد؟ أيّها الربّ يسوع من مزار القديسة ريتا المحبوبة من الشعب اللبناني، وقد اجترحت المعجزات والعجائب مع الكثيرين منهم، نسألك بشفاعتها، هي التي عاشت بمثالية الإيمان الصامد والعنيد، الإيمان الصارخ فكانت عظيمة في إيمانها فأشع بعجائبها، أن تسكب على لبنان السلام الحقيقي. كفانا حروبًا وجوعًا ودمارًا وبطالة وفقرًا. افتقدْ يا ربّ شعبك الصارخ إليك، بأطفاله ونسائه وشبابه ورجاله، بمرضاه ومتألّميه… بمؤسساته على اختلاف أنواعها عساه في زمن القيامة الذي نعيشه، أن يقوم من كبوته ورقاده وموته فيعود إلى الازدهار والأمان والعدالة، آمين.
تسجّل Subscribe على قناتنا على يوتيوب