عظة سيادة المطران يوحنا رفيق الورشا
قدّاس على نيّة لبنان في بازيليك ضريح القدّيسة ريتا في كاشيا – إيطاليا، الثلاثاء 19 كانون الثاني 2021
“هَا نَحْنُ صَاعِدُونَ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَسَيَتِمُّ كُلُّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ بِالأَنْبِيَاءِ عَنِ ابْنِ الإِنْسَانِ، لأَنَّهُ يُسَلَّمُ إِلَى الأُمَمِ، وَيُسْتَهْزَأُ بِهِ، وَيُشْتَمُ وَيُتْفَلُ عَلَيْهِ” (لوقا 18: 31)
آبائي الأفاضل، إخوتي وأخواتي الأعزّاء، والذين يتابعوننا عبر مواقع التواصل الاجتماعي،
بإيمان خاشع وتقوى راسخة، وبثقة تامّة بقدرة الربّ الإلهية، نحجّ إلى كاشيا، إلى هذا المكان المقدّس، مزار القدّيسة ريتا، نحن آباء المعهد الحبري الماروني في روما، وفي قلبنا شعلةُ رجاءٍ بالله الذي لا يخيِّب، ملتمسين منه تعالى بشفاعة القديسة العظيمة ريتا، وهي تصلّي معنا ولنا من سمائها، أن يُزيل الغيمة السوداء عن سماء لبنان. نأتي إلى مكان العبادة هذا، وقد أمّه مصلّون، ولبنانيون مؤمنون، للقديسة ريتا مكانة خاصة في قلوبهم وصلواتهم، منذ مئات السنين، من كلّ أقاصي الأرض، بأعداد وافرة، ليستنجدوا بالقديسة ريتا، شفيعة الأمور المستحيلة، بحيث كانوا يرمون معاناتهم وهمومهم في حنايا الدير وأروقته وجدرانه مستمطرين نعم السماء.
في سياق الشركة الكنسيّة، نضمّ صلواتنا وتضرعاتنا إلى صلواتهم وقد وطئت أقدامهم الكاتدرائية والدير والقبر… حاملين هواجس اللبنانيين ومآسيهم في زمن رديء طغت عليه المصائب والأزمات والبؤس، وحلّت فيه النكبات، واحدة تلو الأخرى، فكان آخرها انفجار بيروت الذي شرّد كثيرين، وأودى بأناس، وراح بالوطن إلى الوراء، فازداد تفاقمًا وتدهورًا. أفما أصبح لبنانُنا في خانة الأمور المستحيلة، ويحتاج إلى يد إلهية تفتقده بشفاعتِك يا ريتا؟
نذكر على هذا المذبح، أيتها القدّيسة ريتا، أمواتنا الراقدين على رجاء القيامة، المرضى المسمّرين على فراشهم، وجميع المصابين بوباء كورونا المتفشّي، ذلك المرض الفتّاك الذي حصد ويحصد الكثير من الناس، حاملين في قلوبنا هواجس وهمومًا ومأساة شعب يرزح تحت الصليب، وأفقُه مسدودة في ما يتخبّط به من وباء وحروب وفقر…
في الإنجيل الذي سمعنا بحسب القديس لوقا الفصل الثامن عشر، تتّجه أنظار الربّ يسوع نحو الآلام في أورشليم، حيث سيتمّ عمله الفدائي على الصليب فالقيامة. ومَن يبغي اتّباعَ يسوع المعلّم، عليه التتلمذ له، إذ ينبغي أن يسلك طريق الصليب والألم ليبلغ فجر القيامة. وفي هذا السياق سلكت القديسة ريتا طريق الألم والوجع والصليب لكي تبلغ حالة القداسة التي يدعونا إليها المعلّم: “كونوا قدّيسين كما أنّ اباكم السماوي قدّوسٌ هو”.
حملت ريتا الصليب في مسيرة حياتها كزوجة، كأمّ وكراهبة. عاشت حياتها بتواضع، متجذّرة بحبّ المسيح، وقد وجدت في إيمانها الصلب القوّة والعضد لتبقى في كلّ ظرف امرأة سلام. ولئن امتلأت حياتها بالصلبان، فلقد حملتها نعمة الربّ في كلّ حقبة من حقبات مسيرتها، إن وهي زوجة إذ غفرت لزوجها السكّير وذاقت المرارة في الحياة بمعيّته وإن بغفرانها لقاتليه فعملت ما يمليه عليها الربّ يسوع هو القائل لقاتليه على الصليب: “إغفر لهم يا أبت لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون”. وفي مَثَل حياتها سلّمت أمرها لله، وببساطة حياتها والتزامها بالانجيل نجد نحن أيضًا الوسائل المهمّة لنكون مسيحيّين حقيقيّين في هذه الظروف الصعبة.
كما وإن الشوكة التي غُرست في جبينها لهي علامةٌ ساطعة لنضجها المسيحي. من على الصليب، ومع يسوع المصلوب، غرفت هذا الحبّ الذي عبّرت عنه بشكل بطولي في بيتها وفي الدير. عرفت أن تكون تلميذة حقيقيّة للمصلوب “وخبيرة في الألم” على حدّ قول البابا القديس يوحنا بولس الثاني. فمعها نسلّط أنظارنا وقلوبنا على يسوع المائت على الصليب والقائم من أجل خلاصنا. هو فادينا الذي فتح لنا باب الخلاص، وجعل من آلامنا جسرًا نعبر به إلى الخلاص ووسيلة لتقديسنا.
تلك الآلام، نعيشها في وطننا المعذّب لبنان، بأوجهٍ مختلفة: آلامِ الشباب والشابات على أبواب السفارات الذين يغادرون البلاد ليبحثوا عن صنع مستقبلهم، بعد أن وجدوا أنفسهم أمام حائط مسدود ولا مَن يلتفت إليهم ليُخرجهم من هذه الأزمة؛ آلامِ الانهيار الاقتصادي والمالي ما يجعل المواطن اللبناني يعجز عن العيش بكرامة واكتفاء؛ آلام الجوع والعوز والفقر؛ آلام الفلتان الأمني، بحيث يشعر اللبناني بأنّه دون حماية وهو أمام المجهول؛ آلام الظلم والعنف والاستبداد والتعدّي على الكرامات والحريات دون حسيب أو رقيب؟ آلام الفساد في المؤسسات، بعيدًا عن النزاهة والشفافية والقيم الأخلاقية الموضوعية؛ آلام أناس أبرياء تشرّدوا إثر انفجار بيروت، منهم من فقدوا بيوتهم وأرزاقهم، ولا ملجأ لهم يأويهم؛ مؤسساتٌ بكاملها أفلست ما جعل أرباب عمل وموظّفين في بطالة مخيفة.
فيا قديسة ريتا، أيّتها الخبيرة في الألم، نضمّ كلّ هذه الآلام إلى آلامك ومعك نشارك في آلام المسيح الخلاصية، عسى أن تكون جسرًا إلى القيامة. إشفعي لنا لدى الثالوث القدوس، لشعب ذاق في تاريخه الكثير من المرارة والمأساة. إنزعي الشرور من قلب العالم. ضمّدي أوجاع المرضى، إفتقدي الحزانى، أنقذي لبنان من ظلامه الحالك عسى أن يعاين نور القيامة. ساعدي المسؤولين عن الشأن العام كي يفتحوا قلوبهم وعقولهم وضمائهم إلى أنوار الروح القدس ف يؤآثروا الخير العام على مصالحهم الخاصّة وحساباتهم الضيّقة. إزرعي الأمل في قلوب الأطفال والشبّان ليهنأ لهم العيش في كرامة وحرية وعنفوان. قودي سفينة الوطن إلى شاطئ الخلاص والأمان واطلبي من المعلّم الإلهي يسوع أن يأمر العواصف والرياح لكي تسكن وتسكت، آمين.
تسجّل Subscribe على قناتنا على يوتيوب