تابعونا على صفحاتنا

مقالات

من هم آباء الكنيسة؟

آباء الكنيسة

من هم آباء الكنيسة؟ – قراءة أرثوذكسيّة

لطالما لجأنا في أحاديثنا الروحيّة الى ذكر “آباء الكنيسة”، غير عالمين أنّ لهذا المصطلح تعريفاً واضحاً، بحسب ما يُعرَف بعلم الباترولوجيا (الآبائيّات)، قد لا ينطبق على كافّة القدّيسين في الكنيسة، من دون أن يُنقص ذلك من قداسة أيّ منهم. بدايةً، لا بدّ أن نوضح أنّ في كنيستنا الأرثوذكسيّة، لا حدود لعصر الآباء، فظهور الآباء مستمرٌّ في الكنيسة المقدّسة إلى يومنا هذا. والكنيسة لا تزال تتمتّع بسلطانها كاملاً كما كانت في القديم، وروحُ الحق يحييها اليوم كما أحياها في القديم. والقول إنّ عصر الآباء انتهى دلالة جهل وعدم فهم لمصطلح “أب ومعلّم”.

من هنا لا بدّ لنا أن نحدّد أنّ ما هو مميّز في الأب والمعلّم هو أنّه مستنير من الروح القدس وأنّ له مساهمةً فعّالةً في التصدي للأزمات اللاهوتيّة التي تهدّد الكنيسة وخلاص المؤمنين. وهذا العنصران، أي الإستنارة، وظهور الأزمات اللاهوتيّة حاضران في كلّ زمن وعصر، وبالتالي نحن نؤمن أنّ الله سيرسل لنا آباء مستنيرين في كلّ زمن وعصر، للتصدّي لتلك الأزمات! والقول إنّ عصر الآباء انتهى مع هذا الأب أو ذاك يعني توقّف عمل الروح القدس في الكنيسة. وهذا ما نرفضه رفضاً قاطعاً.

عبر تاريخ الكنيسة، كانت الأزمات اللاهوتية تظهر تباعاً، الواحدة تلو الأخرى. ففي القرن الرابع مثلاً، ظهرت مشكلة ألوهية الابن، ومن ثمّ ألوهية الروح القدس، مع آريوس وأتباعه وغيرهم، فكان أن أرسل الله القديس أثناسيوس الكبير والآباء الكبادوكيّين ليدحضوا تلك الهرطقات. وفي القرن الخامس، ظهرت مشكلة العلاقة بين طبيعتي المسيح مع نسطوريوس، فلعب القديس كيرلس الإسكندري دوراً بارزاً لحلّ المشكلة. وفي القرن السادس، كانت الأزمة بين فِعْلَي وإرادتَي المسيح، فبرز القديس مكسيموس وبدّد المعضلة. أمّا في القرن الثامن، فقد ظهرت مشكلة الإيقونات وإكرام القدّيسين، ومِن الآباء الذين برزوا كان القديس يوحنا الدمشقي. وصولاً الى القرن التاسع، واجهنا مشكلة الـ”فيليوكفي”، أي انبثاق الروح القدس، فبرز القدّيس فوتيوس بطريرك القسطنطينية، ولمع في توضيح التعليم الصحيح في هذا الموضوع. وفي القرن الحادي عشر، ظهرت مشكلة اتحاد الله بالإنسان (مفهوم التألّه)، فكان القديس سمعان اللاهوتي الحديث خير من وضّح وحلّ الأزمة. وفي القرن الرابع عشر، ظهرت مشكلة ماهيّة القوى الإلهيّة التي يشترك بها الإنسان (ما إذا كانت مخلوقة أم غير مخلوقة)، وهنا تألّق القديس غريغوريوس بالاماس في تحديد تعليم الكنيسة في هذا الشأن… وبالتالي، وبصورة عامّة، نلحظ أنَّه في خضم هذه المشاكل والأزمات كلّها، كانت تظهر في كلّ مرّة، شخصيّات هامّة، مستنيرة، تقدّم مساهماتٍ وحلولاً مناسبة، وهم مَن تسمّيهم الكنيسة المقدّسة “الآباء المعلّمين”.

“آباء الكنيسة المقدّسة”، إذاً، هم الذين شُهِد لهم بالقداسة والبرّ، والذين أخذوا على عاتقهم مسؤوليّة توجيه المؤمنين وتربيتهم روحياً. دورهم ذو وجهين اثنين: الوجه الأول رعائيّ، والوجه الثاني تعليميّ. يهتمّ الوجه الأوّل بالولادة والتوجيه الروحيّ للمؤمنين، ليرتبطوا بالمسيح برباط الروح القدس، ويتمّ ذلك بكرازة الإنجيل وبإتمام الأسرار المقدّسة. أمّا الوجه التعليميّ فيهتمّ بتعليم المؤمنين وبتفسير حقائق الإيمان، كما يواجه بالدرجة الأولى المشاكل والأزمات اللاهوتية الكبرى في الكنيسة، وهو الدور الكبير الذي يلعبه الآباء في حياة الكنيسة.

وبالتالي، خصائص الآباء تأتي على الشكل التالي: لاهوتياً، هم تجسّد لتقليد الكنيسة وخُلُقها وتعليمها. وهم مستنيرون بالروح القدس، ليتمكّنوا من التعبير وبشكل موسّع عن خبرة واختبار الحقيقة التي نملكها سلفاً في التقليد الشريف (سواء في الكتاب المقدّس أو في التقليد المصادَق عليه لدى الآباء). وأخيراً، هم مساهمون فعّالون وناجحون في مواجهة وتجاوز الأزمة اللاهوتية التي هّزت الكنيسة في عصر ما، وهدّدت الحقيقة، وبالتالي خلاصَ المؤمنين.

باختصار، آباء الكنيسة المقدّسة هم حاملون أصيلون للتقليد الكنسيّ، يستنيرون من الروح القدس ويعبّرون لاهوتياً، وبشكل موسّع، عن خبرة الحقيقة التي تهدّدها أزمة لاهوتيّة خطرة على خلاص المؤمنين، وهذا كلّه طبعاً بِنِيَّة مواجهة تلك الأزمة. فلنطلبّن شفاعاتهم وصلواتهم من أجلنا جميعاً كي تبقى الكنيسة، بفضلهم وبنعمة الثالوث القدّوس، قويّةً، مُصانةً، محصَّنة، عروساً بهيّةً للمسيح الإله، آمين!

تسجّل Subscribe على قناتنا على يوتيوب

https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg