إذا تمعّنّا في مراجعة شريطِ حياتنا، لَوَجدنا أنّ الأنانيّة تستحقّ وَعَن كلّ جدارةٍ جائزة أوسكار لأفضل ممثلة عبر التاريخ. كيف لا، وهي لا تنفكُّ تخدعنا بالاختباء وراء مواقف وقرارات اخذناها في حياتنا بدَت لنا للوهلةِ الأولى صحيحة وصائبة. ولم تكتفِ بذلك فحسب، بل أقنعتنا أحيانًا كثيرة بشعاراتٍ تبدو لنا اليوم منطقيّة وضروريّة للاستمرار والنجاح في هذه الحياة. لنتأمّل بثلاثٍ منها.
الشعار الأوّل: “أنا أو لا أحد”: من أهمّ النعم التي أغدقها الله علينا هي نعمة الحياة ومن واجبنا الحفاظ عليها وحمايتها. لكنّ أنانيّتنا قد اقنعتنا أنّ الأماكن في هذه الحياة محدودة، فإذا أردنا البقاء لا بدَّ من إلغاء الآخر بأيّ طريقةٍ. لا زالت قصة قايين وهابيل تتكرّر يوميًّا بين الإخوة في البشريّة: إنّه صراع الوجود والبقاء للأقوى لأنّ الحياة لا تتّسع للجميع. ولكنّ الربّ يسوع حطّم هذا المبدأ بقوله: ” في بَيْتِ أَبِي مَنَازِلُ كَثِيرَة، وإِلاَّ لَقُلْتُهُ لَكُم. أَنَا ذَاهِبٌ لأُعِدَّ لَكُم مَكَانًا” (يو 14: 2). نعم، يسوع، الابن الوحيد، البِكرُ لإِخْوَةٍ كَثِيرِين (روم 8: 29)، بشّرنا أن السماء تتّسع للجميع. وكما في السماء كذلك على الأرض: الأرض تتّسع للجميع إذا رأينا في الآخر أخًا في الانسانيّة وليس عدوًّا يحاول سَلبنا كلّ ما لدينا. لا أستطيع أن أقول “أنا” وأحقّق دعوتي في الحياة بدون لقاء ومحبّة الآخر. عندها يتغيّر الشعار من “أنا أو لا أحد” إلى ” في بيتنا المشترك (أي الأرض)، الحياة تتّسع ل “أنا” و “أنتَ” معًا وإلّا لن يبقى أحد”.
الشعار الثاني: “أنا، قبلَ أيّ أحد”: منذ الصغر، نعشق المنافسة في مختلف ميادين الحياة ونحبّ ونفرح بتحقيق الفوز. ولكنّ الخطر أن ننظر إلى الحياة بأكملها وكأنها “لعبة”: “في الحياة، غالبٌ ومغلوب والفوز للأقوى” أي لمن يتربّع على عرش المقدّمة فوق الجميع. بالنسبة للبعض، لا يهمّ الوسيلة المستعملة للفوز (غش، الكذب…) ولا النتائج المترتبة (فقر الآخر، تهميشه وإهانة كرامته …)، المهمّ هو الفوز. اه! كم كانت أنانيّتنا مكرةً عندما جعلتنا أحيانًا نتسابق مع الآخرين حتّى في كثرة عمل الخير لا حبًّا بالخير بل لإظهار جمال صورتنا أمام الآخرين فنحتلّ قلوبهم وتقديرهم. ولكنّ المسيح مات وقام من أجلنا جميعًا ومنحنا الخلاص أي الفوز للجميع. يبقى علينا أن نقبل هذا الانتصار في حياتنا أي أن نعيش كأبناء القيامة. منطق الحياة إذًا لا يُبنى على معادلة الربح والخسارة، ففي السعي للمحافظة على الحياة على هذه الأرض مثلًا، هناك نتيجتان لا ثالثهما: أو نربح معًا أو نخسر معًا. عندها يتحوّل الشعار من “أنا، قبلَ أيّ أحد” إلى “لِنتضامَن “أنت” و”أنا” لنفوز معًا وإلّا لن يبقى أحد”.
الشعار الثالث: “أنا، بعيدًا عن أيّ أحد”: من القضايا التي تشغل اهتمام الجميع اليوم هي الخصوصيّة الشخصيّة التي تساهم في حماية الانسان (معلوماته، علاقاته، حريّته…) من المخاطر التي
تهدّده وتؤمّن له الراحة والاطمئنان. ولكن، تحت شعار حماية الخصوصيّة واحترام المساحات، تحاول الأنانيّة أحيانًا أن تبني جدرانًا تبعد الآخرين عن بوابّة حياتنا ولا تسمح لهم بالدخول إلّا لتأمين حاجاتنا ومصالحنا الشخصيّة (من هنا قول يردّدُه بعض الشبّان اليوم: ما في مصلحة، ما في مرحبا). نحاول في شتّى الطرق أن ننزع شعور الوحدة من قلوبنا في وسط حالة “البرص الإراديّ” التي نعيشها، ولكن تبقى لمسة المسيح التي تتجلّى أحيانًا كثيرة في لمسة الآخر هي الحلّ: “فتَحَنَّنَ يَسُوعُ ومَدَّ يَدَهُ ولَمَسَهُ وقَالَ لَهُ: قَدْ شِئْتُ، فَاطْهُرْ!” (مر 1: 41). عندها يتحوّل الشعار من “أنا، بعيدًا عن أيّ أحد” إلى ” إذا توحّدنا “أنت” و”أنا” نُبعد كلّ المخاطر المحدقة بنا وإلّا لن يبقى أحد”.
في الختام، وصف الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس في رسالته بمناسبة “اليوم العالمي للأرض” فيروس كورونا بأنه “جرس إنذار لم نشهد مثيله من قبل”. نعم، هذا الفيروس جرس إنذار لفيروس أخطر يهددنا جميعًا سمّاه البابا فرنسيس “فيروس الأنانيّة اللامبالية”. لنتسلّح بالمحبة الأخويّة التي أوصانا بها وعلّمنا إيّاها المسيح فننتقل من محوريّة “الأنا” إلى خير ال “نحن”، أي السعي إلى الخير العام وإلّا…لن يبقى أحد!