موقع Allah Mahabba صليبُ يسوع: محبّةٌ تغفرُ من عُمق الجراح!
كيف يُمكنُ للمحبّة أن تزهر في أرض الألم؟ هل يُعقلُ أن ينبثق الغُفرانُ من جُرحٍ نازفٍ؟ كيف استطاع يسوعُ، المُعلّقُ بين الأرض والسّماء، أن يُحبّ ويغفر في اللّحظة التي جُرّد فيها من كُلّ شيءٍ؟ وهل نقدرُ نحنُ، مثلهُ، أن نغفر لمن جرحونا، حين نُصبحُ نحنُ أنفُسُنا جُرحًا؟ هذا التّأمُّلُ دعوةٌ للغوص في سرّ المحبّة المصلوبة، محبّة يسوع لنا، ولرُؤية جراحنا بنور القيامة، واكتشاف معنى الغُفران الحقيقيّ الّذي يُحرّرُ.
صليبُ يسوع، قمّةُ المحبّة المُتّحدة بالله
في قمّة الألم، تجلّت قمّةُ المحبّة. إنّ يسوع لم يذهب إلى الصّليب كضحيّةٍ عبثيّةٍ للشّرّ، بل كابنٍ حُرٍّ مُتّحدٍ تمامًا مع الآب، “طائعًا حتّى الموت، موت الصّليب” (فيلبّي ٢، ٨). إنّ المحبّة الّتي فاضت من يسوع هي ثمرةُ اتّحاده الكامل بالآب، محبّةٌ مُتجذّرةٌ في علاقة بُنُوّته الأزليّة: “لأنّي من السّماء نزلتُ لا لأعمل مشيئتي، بل مشيئة الّذي أرسلني” (يوحنّا ٦، ٣٨).
نراهُ على الصّليب يُردّدُ المزامير، ومنها صلاتُهُ الشّهيرةُ: “إلهي، إلهي، لماذا تركتني؟” (مزمور ٢٢، ٢)، لا كإنكارٍ للآب، بل كتعبيرٍ عن ألمٍ حقيقيٍّ يسلكُهُ المؤمنُ في ثقته بالرّبّ. فالمزمورُ عينُهُ ينتهي بإعلان خلاص الرّبّ وتمجيده. يسوعُ، في نزاعه، لا يزالُ في حوار حُبٍّ مع أبيه، مُستمرًّا في تسليم ذاته بين يدي الآب: “يا أبت، في يديك أستودعُ رُوحي” (لوقا ٢٣، ٤٦).
كما يقولُ القدّيسُ بُطرُسُ: “الّذي لمّا شُتم لم يشتم عوضًا، ولمّا تألّم لم يُهدّد، بل أسلم أمرهُ إلى الّذي يقضي بالعدل” (١ بطرس ٢، ٢٣). في اتّحاده بالله، أحبّ يسوعُ حتّى النّهاية (يوحنّا ١٣، ١).
الغُفرانُ وسط الألم: دعوةٌ للتّوبة وفعلُ تكفيرٍ
على الصّليب، لم يكتف يسوعُ بالصّمت أو الصّبر، بل بادر بفعل غُفرانٍ: “يا أبت، اغفر لهُم، لأنّهُم لا يعلمون ماذا يفعلون” (لوقا ٢٣، ٣٤). ما أعظم هذا الغُفران، وما أعمقهُ! لم يكُن الغُفرانُ مُجرّد تسامُحٍ، بل إعلانًا مُزدوجًا:
أوّلًا، هو دعوةٌ مُتجدّدةٌ للتّوبة. في كُلّ مرّةٍ نسمعُ فيها هذه الكلمات، نُدعى إلى أن نفتح قُلوبنا لرحمة الله. فغُفرانُ يسوع يسبقُ حتّى اعتراف الجُناة بجريمتهم. إنّهُ الغُفرانُ الّذي “يستبقُ الخاطئ”، ويُهيّئُ لهُ طريق العودة.
ثانيًا، هذا الغُفرانُ ليس بالكلام فقط، بل هو فعلُ تكفيرٍ، حمل فيه يسوعُ خطايانا وصالحنا مع الآب: “هو الّذي حمل في جسده خطايانا على خشبة الصّليب” (١ بطرس ٢، ٢٤). صار يسوعُ “ذبيحة كفّارةٍ” (رومة ٣، ٢٥)، لا عن الّذين أحبُّوهُ، بل عن الّذين صلبوهُ. يقولُ القدّيسُ توما الأكوينيّ: “ما من عملٍ أظهر محبّة الله أكثر من أن يموت الابنُ من أجل أعدائه.”
دعوتُنا للغُفران رُغم الجراح: طريقُ القيامة واكتشافُ إنسانيّتنا.
يسوعُ لا يطلُبُ منّا شيئًا لم يختبرهُ بنفسه. لقد عرف ألم الطّعن، والخذلان، والاحتقار. ومع ذلك، غفر. وهو اليوم يُعطينا نعمتهُ لنغفر نحنُ أيضًا، لا بقُوّتنا، بل بقُوّة صليبه وقيامته.
نستطيعُ أن نغفر، حتّى وسط أعمق الجراح، لأنّ المسيح فينا، وجُرحنا معهُ يُصبحُ طريقًا لاكتشاف وجه الله فينا. حين ننظُرُ إلى جراحنا بنُور القيامة، لا نراها علامة ضعفٍ، بل معبرًا إلى الحُرّيّة. يقولُ بولُسُ: “لكي أعرفهُ وقُوّة قيامته وأُشارك في آلامه، مُتشبّهًا بموته، لعلّي أبلُغُ إلى قيامة الأموات” (فيلبّي ٣، ١٠-١١).
حين يغفرُ الجريحُ، يُصبحُ مرآةً لصُورة الله الّذي غفر لنا. جراحُنا، إن قُدّمت مع المسيح، تصيرُ طريقًا لاكتشاف عُمق إنسانيّتنا المخلوقة على صُورة الله كمثاله. يقولُ القدّيسُ يوحنّا الصّليب: “في المساء، ستُحاسبُ على المحبّة”، والمحبّةُ الحقيقيّةُ لا تكتملُ إلّا بالغُفران. ليس الغُفرانُ شُعورًا عابرًا، ولا قرارًا سهلًا يُتّخذُ مرّةً واحدةً وينتهي. إنّهُ مسيرةٌ، نخطوها يومًا بعد يومٍ، مُتّكلين على نعمة الرّبّ، لا على قُوانا البشريّة المحدودة. فكُلّ مرّةٍ نختارُ أن نغفر، نُشبهُ يسوع، ونسمحُ لنُوره أن يشُعّ من خلال جراحنا.
إغفر اليوم، حتّى إن لم تشعُر بالقُوّة الكافية. أُطلُب من يسوع أن يُحبّ فيك، ويغفر فيك، ويشفيك. إغفر لمن جرحك عمدًا أو دُون قصدٍ، واسع أن تراهُ إنسانًا مجروحًا مثلك، بحاجةٍ إلى نعمة الخلاص. وحين تشعُرُ بأنّ الغُفران مُستحيلٌ، تذكّر: على المذبح، تُجدّدُ ذبيحةُ المسيح الّذي غفر لك أوّلًا، ويُعطيك القُوّة لتغفر أنت أيضًا.
حين سلّم يسوعُ الرُّوح على الصّليب، “انشقّ حجابُ الهيكل شطرين، من فوقُ إلى أسفل” (مرقس ١٥، ٣٨). لم يكُن ذلك مُجرّد حدثٍ رمزيٍّ، بل إعلانًا عظيمًا: إنّ طريق الدُّخول إلى حضرة الله قد فُتح. لقد أُزيلت الحواجزُ، وصار الغُفرانُ لنا مُتاحًا، مجّانًا، بالحُبّ المصلوب.
ومُنذُ ذلك الحين، وفي كُلّ مرّةٍ نحتفلُ بالقُدّاس الإلهيّ، نُعلنُ هذا الغُفران ونتذوّقُهُ. إنّها ليست مُجرّد ذكرى، بل دُخولٌ حيٌّ في سرّ الذّبيحة: هُناك، نضعُ جراحنا، ونغفرُ، ويُغفرُ لنا، لأنّ الرّبّ الحيّ يُجدّدُ على المذبح حُبّهُ وغُفرانهُ لنا جميعًا. آمين.
تابعوا قناتنا
https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg
شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!