تابعونا على صفحاتنا

مقالات

في العَشاءِ الأَخير كَسَرَ يَسوعُ ذاتَهُ مَعنا عَهدًا أَبَدِيًّا!

على الإِطلاقِ لَم تَكُنْ اللَّيلَة الَّتي سَبَقَت آلامَ الرَّبَّ يَسوع وَمَوتِهِ، كَباقي اللَّيالي! أَرادَها يَسوع لَيلَةً إِحتِفالِيَّةً وَحَبرِيَّةً بإمِتياز، إِن مِنْ حَيثُ المَكان وَدَلالاتِهِ، أَم مِنْ ناحِيَةِ العَشاءِ وَما تَضَمَّنَهُ مِنْ كَلامٍ وَأَفعال. لَم يَشَأ يَسوع أَن يَحتَفِل بِعَشاء الفصحِ الأَخيرِ مَع تَلاميذِهِ الرُّسُل، في مَكانٍ عاديٍّ رُغمَ عَيشِهِ طوالَ حَياتِهِ بالبَساطَةِ وَالفَقر، فَقَدْ قَرَّرَ أَن يُقيمَهُ في العِلِّيَّة -ذاكَ المـَكانِ المـُرتَفِع-، وَأَن تَكونَ مُهَيَّأَةً عَلى أَفضَلِ حال. أَصَرَّ عَلى تِلميذَيهِ يوحَنَّا وَبُطرُس اللَّذَينِ يَتَمَتَّعانِ بِمَكانَةٍ خاصَّة عِندَهُ أَنْ يَقوما بِتَهِيئَةِ المـَكان لِلفِصح. هذانِ الشَّاهِدانِ عَلى أَعظَمِ أَحداثِ رِسالَتِهِ إِنْ مِن ناحِيَةِ التَّجَلّي أَو مِنْ ناحِيَةِ إِقامَةِ ابنَةِ يائيرُوس مِنَ المـَوت وَسِواهما… . أَمَّا على مُستَوى العَشاء، لَمْ يَكُنْ عَشاءَ فِصحٍ عاديٍّ، فَقَد أَلقى وَصِيَّتَهُ الجَوهَرِيَّة: “أَحِبُّوا بَعضُكُمْ بَعضًا، كَما أَنا أَحبَبْتُكُمْ” وَعَلَيها صَنَعَ طَقَسَينِ ذاتا بُعدٍ روحِيٍّ نَبَويٍّ وَتَأسيسيّ، وَهُما: طَقسُ غَسل الأَرجُل، وَطقَس تَقديسِ الخُبزِ وَالخَمر.

لقَد كانَ هذا الفِصح إِستِثنائِيًّا حَقًّا، تَضَمَّنَ كَثافَةً كَبيرَةً مِنَ المـَشاعِرِ العَميقَة، لا بَلْ مِنَ المـَحَبَّة الحَقيقيَّة المـَسكوبَة، الَّتي ما كانَ بَعيدًا عَنْها شُعورَ الخِزلانِ وَالخَيبَة وَالخِيانَة وَالحُزنِ وَالوَداع. في كُلِّ مَرَّةٍ نَتَذَكَّرُ هذا العَشاء عَلَينا أَن ندخُلَ إِليَهِ مِنْ بابِ التَقوى وَالإِيمانِ وَالخشوعِ وَالإِجلالِ وَالمـَحَبَّة، لِأَنَّهُ ما صُنِعَ لِيَكونَ حَدَثًا في الماضي، إِنَّما لِيَكونَ دائِمًا حَيًّا وَفاعِلًا في الحاضِر. في كُلِّ مَرَّةٍ نَحتَفِلُ بِالقُدَّاس لا نَمضي بِذاكِرَتِنا إِلى ماضٍ بَعيد، إِنَّما نَجلِسُ مَعَ الرَّبَّ يَسوع عَلى مائِدَتِهِ الخَلاصِيَّة. لِنَسأَلَ الرُّوحَ القُدُسَ أَن يَلمُسَ قُلوبَنا لِتَشعُرَ بِحَرارَةِ مَحَبَّةِ المـَسيحِ لَنا الَّتي سُكِبَت غِسْلًا على أَرجُلِ التّلاميذ، وَأَضحَتْ خُبزَ حَياةٍ وَكَأَسَ دَمٍ مُراقٍ لِمَغفِرَةِ الخَطايا وَلِلحَياةِ الأَبَدِيَّة.

مِنْ خِلالِ ميزَة العِلِيَّة كَمَكانٍ يَرتَفِع عَنْ باقي البُيوتِ وَالمَنازِل، نَفهَمْ رَمزِيَّة وَميزَة الكَنيسَة كَمَكانٍ يَتَمَيَّز وَيَرتَفِع بِقيمَتِهِ الرُّوحِيَّة عَنْ باقي الأَمكِنَة، فَيأخُذُ قُدْسِيَّتَهُ مِمَّا فَعَلَهُ الرَّبَّ في عِلِيَّةِ صِهيون. أَكثَرَ مِنْ ذِلَكَ، أَصبَحَت العِلِيَّة وَالكَنيسَة بِبُعدِهِما المـَكانيّ رَمْزًا لِما عَلى قُلوبِنا أَن تَكونَهُ مَسكِنًا وَخِدرًا وَمَقامًا للرَّبَّ يَسوع. في قُلوبِنا يُريدُ الرَّبُّ أَن يُلقي سِرَّ وَصِيَّةِ مَحَبَّتِهِ لَنا. قُلوبَنا ذاتُها يُريدُ أَن يَغسِلَها وَيُنَقّيها بِحُنُوِّهِ المـُتُواضِعِ وَالوَديعِ عَلَيها في كُلِّ مَرَّةٍ نُصغي إِلى كَلماتِهِ الَّتي هيَ “روحٌ وَحَياة”. هوَ الَّذي أَرادَ أَنْ يُطعِمَنا جَسَدَهُ لِئَلَّا تَفنى أَجسادُنا بِفَسادِ الخَطيئَة، وَأَن يَسقِينا دَمَهُ لِنَعرِفَ رَحمَتَهُ غُفرانًا فَتَكونَ لَنا فيهِ الحَياة الأَبَدِيَّة.

النُقطَة المِحوَرِيَّة وَالمـَركَزِيَّة في كُلِّ ما صَنَعَهُ وَفَعَلَهُ وَقالَهُ يَسوعُ في عَشائِهِ الأَخير مَعَ تَلاميذِهِ يَقومُ عَلى فِعل “الكَسْر” أي المـُشارَكة الَّذي جَعَلَهُ مَعَنا “عَهدًا أَبَدِيًّا”. مِنْ خِلالِ غَسلِ الأَرجُل كَخِدمَةٍ يَقومُ بِها العَبيد تُجاهَ أَسيادِهِم، قَدْ شارَكَنا يَسوع وَهوَ إِبنُ الله، بمِحَبَّتِهِ المـُتَواضِعَة وَالوَديعَة، الَّتي بَلَغَتْ ذُروَتَها، عَلَّها تَتَجَلَّى لَنا صورَةُ الله المـُحِبّ وَالحَنون وَالرّحوم، فَنَراهُ حاضِرًا دائِمًا في حَياتِنا لِأَداءِ خِدمَةِ الخَلاص وَالمُصالَحة. يَأخُذُ الغِسلُ مِن ناحِيَةٍ أُولى بُعدَ التَّطهير مِنْ الخَطايا للتَّجَدُّدِ بِنَقاوَة المـَعمودِيَّة وَالتَّوبَة فَنُحفَظَ مِنْ لَدغِ الحَيَّة القَديمَة إِبليس. وَمن ناحِيَةٍ ثانِيَة يَأخُذُ طابِع الإِعداد لِما هوَ مُقَدَّس. في كِلَيهِما أَعطانا ذاتَهُ مِثالًا وَقُدوَة، لكِيَ نَتَصالَحَ مَع بَعضِنا البَعض.

مِن خِلالِ خُطبَة الوَداع وَوَصِيَّة المـَحَبَّة وَصَلاتِهِ الكَهنوتِيَّة، شارَكَنا يَسوعُ بِصَفاءِ نِيَّتِهِ وَقَصدِ مَشيئَتِهِ وَتَدبيرِ الآبِ الخَلاصيّ مِنْ أَجلِنا. دُهِشوا التّلاميذ عِندَما سَمِعوهُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ يَتَكَلَّمُ مَعَهُم بِوضوحٍ تامّ، مُشارِكًا إِيَّاهُمْ أَسرارَ قَلبِهِ. المـَحَبَّةُ الحَقيقيَّة تَكْمُنُ بِالثِّقَةِ الكامِلَة وَالمـُطلَقَة. مِنْ هُنا نَكتَشِف كَيفَ يَسوع وَثِقَ بِتلاميذِه عَلى الرُّغمِ مِنْ مَعرِفَتِهِ الثابِتَة وَالمـُسبَقَة لِما فيهِم مِنْ ضُعفٍ وَنَقص. رُغمَ ذَلِكَ سَلَّمَهُمْ أَسرارَ قَلبِهِ وَصَلَّى لِأَجلِهِم لِيَكونوا بِأَجمَعِهِمْ واحِدًا. لا يُمكِنُنا أَن نُحِبَّ يَسوع وَأَن نَحفَظَ وَصاياهُ وَنَحنُ لا نُحِبُّ بَعضُنا البَعضَ، وَلا نَغارُ وَنَفتَكِر وَنُصَلِّي لِنَكونَ بِأَجمَعِنا واحِدًا. هذا النَّوع مِنَ “الكَسْر” أَي المـُشارَكَة يُحَفِّزُنا عَلى أَن نَكسِرَ دائِمًا كَلِمَة اللهِ في أَحاديثِنا وَلِقاءاتنا. لهذا السَّبَب تَأخُذُ كَلِمَةُ الله في القُدّاس حَيِّزًا مُهِمًّا لِتَجِدَ مَكانها في عِلِّيَّةِ قُلوبِنا وَضَمائِرِنا، لِكَيْ نُعلِنَ الإِنجيلَ حَقًّا وَمَحَبَّة.

مِن خِلالِ تَقديسِ الخُبزِ وَالخَمر، كَسَرَ يَسوع مَعَنا عَهدَهُ الجَديد وَالأَبَديّ. أَعطانا ذاتَهُ مَأَكلًا وَمَشرَبًا هوَ الخُبزُ النّازِل مِنَ السَّماء، مَغفِرَةً لِخَطايانا وَحَياةً أَبَديَّة. لَم يُعطِنا الرَّبَّ يَسوع شَيئًا خارِجًا عَنْهُ، بَلْ كَسَرَ جَسَدَهُ، أَيْ شارَكَنا بِطَبيعَةِ كِيانِهِ الإِلهيّ بَعدَما شارَكَنا طَبيعَتَنا البَشَرِيَّة، وَذَلِكَ جَوابًا عَلى سُؤْلَنْا وَجوعَنا العَميق لِلأُلوهَة. لِذَلِكَ أَصبَحَ جَسَدَهُ القُرباني دواءَ الخَلاص. لَقَد جَعَلَ مِنْ عَصيرِ الكرمَةِ دَمَهُ المـُراقَ مِنْ أَجلِنا عَلى الصَّليب، لِكَيْ يُروي عَطَشَنا لِلحَياةِ، نَحنُ الَّذينَ نَعرِفُ المـَوت. كانَ تَقديسُ يَسوع لِلخُبزِ وَالخَمرِ مُتَصِّلًا إِتِّصالًا عَميقًا بالمـَعنى الرُّوحيّ للحَمَل الفِصحيّ وَللمَنّ وَالسّلوى، وَلِثَمَرَةِ شَجَرَةِ الحَياة في العَهدِ القَديم، وَأَضحى مَدْخَلًا أَساسِيًّا لِذَبيحَةِ الصّليب. لَيسَ هذا ذات بُعدٍ رَمزيّ وَحَرَكَةً صُوَرِيَّة افتَعَلَها يَسوع لَيلَةَ آلامِهِ، إِنَّما هوَ تَجسيدًا حَقيقيًّا لِأُلوهَتِهِ الَّتي سَتَبْقى مـَحجوبَةً عَنْ عُيونِنا البَشَرِيَّة. لَنْ نَستَطيعَ أَبَدًا فَهمَ حُضورَ يَسوع الحَقيقيّ وَالفِعليّ في سِرّ الإِفخارِستيَّا خارِجًا عَنْ الإِيمان والمـَحبَّة، وَعَنْ تَكامُل وَتَرابُط الحَدَثْ الفِصحيّ بَينَ ما سَبَقَهُ وَمَهَّدَ لَهُ في العَهدِ القَديم، وما فيهِ مِن تَأسيسٍ قُربانيّ وَآلامٍ وَمَوتٍ على الصَّليب وَقِيامَة.

لَقَدْ أَخبَرَنا لوقا في إِنجيلِهِ أَنَّ يَسوع قَدْ اشتَهى شَهوَةً عَظيمَةً إِقامَةَ عشائِهِ الأَخير مَع تَلاميذِه. تَمامًا مِثلَما أَخبَرَنا يوحنَّا في إِنجيلِهِ كَيفَ بَلَغَ الحُبُّ بِيَسوعَ إِلى أَقصى الحُدود. هوَ نَفسُهُ الكَلِمَةُ الَّذي بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ، وَالَّذي قالَ في البَدء: “لِيَكُنْ نور، فَكان”. لَمْ تَكُنْ كَلِماتُهُ في عَشائِهِ الأَخير مَفصولَةً عَنْ أَفعالِهِ، بَلْ كِلاهُما (القَولَ وَالفِعل) كانَا يَشهَدانٍ مَعًا لِعَظَمَةِ مَحَبَّتِهِ الَّتي تَجَلَّت لَنا في غَسلِ الأَرجُل، وَوَصِيَّةِ المـَحَبَّة، وَتَقديسِ الخُبزِ وَالخَمر. نَعَمْ لَقَد “كَسَر” (أَي شارَكَنا) يَسوعُ ذاتَهُ مَعَنا وَلِأَجلِنا، قَولًا وَفِعلًا، لِكَيْ لا نَعيشُ مِن بَعدُ لِأنفُسِنا، بَلْ لَهُ هوَ الَّذي ماتَ وَقامَ مِنْ أَجلِنا. آمين.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!