تابعونا على صفحاتنا

مقالات

ما لَمْ يَخطُر عَلى قَلبِ بَشَر وَكانَ يَرغَبُ فيهِ في التَّجَسُّدِ قَد تَم!

يَتَمَيَّزُ عيدُ الميلاد بِرَونَقِهِ الجَميل وَالرَّائِع عَنْ باقي الأَعياد وَالمـُناسَبات إِن على المـُستَوى الدّينيّ أَو حَتَّى عَلى المـُستَوى الإِجتِماعيّ. نَكتَشِفُ أَنَّ هذا العيد يُحَرِّك عَجَلَةَ الحَياة فَيَجعَلَها تَتَزَيَّن بِالأَضواء، وَكَأَنَّها بِهِ تُخلَقُ مِنْ جَديد، أَو بِتَعبيرٍ آخَر تَجِدُ مِلئَها فيه. في الحَقيقَةِ عيدُ الميلادِ يَجعَلَها أَكثَرَ حَياةً وَدينامِيًّة، فيهِ يُسَلَّطُ الضّوءَ عَلى الهَدايا وَالأَلبِسَة الجَديدة، وَعَلى إِجتِماعِ العائِلَة وَالأَهلَ وَالأَصحابَ مَعًا حَولَ المائِدَة بِشَكلٍ دافِئٍ وَحَميم. مُقابِلَ هَذِهِ الأَبُهَّةِ يُنسى صاحِبَ العيد الرَّبَّ يَسوع طِفلَ بَيتَ لَحم، لِتُقتَصَر المـُناسَبَة عَلى إِحتِفالٍ خارِجيّ نَفرَحُ فيهِ لِأَنَّهُ يُغَيِّرُ لِبَعضِ الوَقتِ النَّمَطَ الإِعتِياديّ لِحَياتِنا. مَعَ هَذِهِ الحَرَكَة نَكتَشِفُ أَنَّ التَّغييرَ الخارِجيّ الَّذي يُحدِثُهُ زَمَنُ الميلاد يُغَيِّرُ نَظرَتَنا لِلحَياة لِلَحَظاتٍ قَليلَة، وَلَكِنْ هِيَ فُرصَةٌ لَنا جَميعًا لِنَذهَبَ إِلى صاحِبِ العيدِ، لِنَكتَشِفَ المـَعنى وَالتَحَوُّلَ الَّذي أَتانا بِهِ في تَجَسُّدِهِ.

أَضواءُ سَماءَ بَرِّيَّةَ بَيتَ لَحم وَأَصواتُ المـَلائِكَة شَكَّلَت دَعوَةً للرُّعاةِ، لِكَيْ يَخرُجوا مِنْ نَمَطِهِم الإِعتِياديّ، فَتَرَكوا قَطيعَ الخِرافَ، مَورِدَ عَيشِهِم، رُغمَ عَتمَةِ اللَّيلِ وَذَهَبوا مُسرِعينَ لِيُشاهِدوا المـُخَلِّص: “طِفلًا مُقَمَّطًا مُضجَعًا في المـِذْوَد”. عَلامَةٌ لا تَتَحَلَّى بِأَيِّ إِمتِيازٍ خارجيّ، لَكِنَّها تُشيرُ إِلى حُضور أل عِمّانوئيل – اللهُ مَعَنا، كَرَبٍّ وَمُخَلِّصٍ بِصورَةِ إِنسانٍ فَقيرٍ وَضَعيف. يَحتاجُ لِأَحَدٍ يَعتَني بِهِ، وَهوَ الرَّبُّ وَالمـُخَلِّص!.

كانَت ليلَةُ ميلادِ الرَّبّ يَسوع كَسائِر اللَّيالي، وَكانَ نَمَطُ حَياةِ الإِنسان هوَ عَينُهُ، كُلُّ واحِدٍ يَعيشُ وَفقًا لِمُعتَقَداتِهِ وَعاداتِهِ وَحاجاتِهِ. في تِلكَ اللَّيلَةِ لَمْ يوجَد مَكانٌ في المـَضافَةِ لِكَيْ تَلِدَ العَذراءَ الطِّفلَ يَسوع، كَما يَحدُثُ اليَوم في غَزَّة وَفي كُلِّ مَكانٍ عَلى وَجهِ الأَرض حَيثُ الظُّلمُ وَالحَربُ وَالفَقر، وَحَيثُ العُنصُرِيَّة وَالفَوقِيَّة الإِجتِماعيَّة أَو الدّينيَّة. هذا الأَمر يَزيدُ مِنْ حَيرَةِ العالَم، كَيفَ يَكونُ هَذا: أَنْ يولَدَ إِبنُ اللهِ الَّذي “بِهِ كانَ كُلُّ شَيءٍ، وَبِدونِهِ ما كانَ شَيءٌ مِمَّا كان” في هذا العَدَم!!. أَيُعقَل أَنَّ الخاِلق يَلبَس الطَّبيعَةَ البَشَرِيَّة؟ أَيُعقَل أَنْ يُصبِحَ اللَّامُتَناهي مَحدودًا؟ يُشَكِّلُ هذا الأَمر خَيبَةَ أَمَلٍ لِمَنْ يُريدُ أَن يَجعَلَ مِنَ اللهِ مُتَعالِيًا وَصَمَدًا.

نَعَم لَقَدْ شَكَّلَت تِلكَ اللّيلَة فارِقًا قِياسِيًّا عَلى مُستَوى التَّاريخ، وَعَلى مُستَوى حَياةِ الإِنسانِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ سَيِّدَ التَّاريخ شاءَها أَن تَكون. رُبَّما يَقولُ البَعضُ أَنَّ الإيمانَ المـَسيحيّ هَرطَقَةٌ وَجنونٌ وانحِرافٌ عَنْ العَقلِ وَالمـَنطِق: اللهُ يولَد! اللهُ يَتَجَسَّد! حاشا وَكَلَّا… . هُنا نُكَرِّرُ قَولَ النّبِيّ أَشَعيا: “مَنْ لَهُ فِكرُ الله، وَمن كانَ لَهُ مُشيرًا؟”؛ “أَفكارَهُ تَسمو عَن أَفكارِ البَشَر، وَطُرُقُهُ تَعلو عَن طُرُقُهُم”. عِندَما نُريدُ أَنْ نَصِفَ اللهَ كَرَبٍّ خالِق، أَوَّلُ صِفَةٍ نُعطيهِ إِيَّاها أَنَّهُ القَدير، وَبالتالي فَلا شَيءَ مُستَحيلَ لَدَيه، كَم بِالأَحرى إِذا أَرادَ هوَ أَن يَكشِفَ عَن ذاتِهِ لإِنسانِيَّتِنا أَنَّهُ المـَحَبَّة وَذَلِكَ مِنْ أَجلِ خَلاصِها أَوَّلًا مِن تَحطيمِها لِذاتِها. في تَنازُلِهِ العَجيب أَعطى الجَوابَ النِّهائيّ لِمَعنى وَقيمَةَ وَغايَةَ وجودَنا. كَما أَنَّ طُيورَ السَّماءِ تَصنَعُ أَعشاشَها مِنْ يَباسِ الأَعشابِ وَأَوراقِ الشَّجَرِ المـُندَثِرَة، هَكَذا شاءَ الرَّبُّ أَن يَتَّخِذَ مِنْ إِنسانِيَّتِنا مَسكِنًا لَهُ، هوَ الَّذي لا تَسَعْهُ السَّموات. المـَحَبَّةُ الحَقَّة لا مَنطِقَ يَحُدُّها وَلا تُفَسَّرُ دَوافِعَها، وَإِلَّا بَطُلَت أَن تَكونَ مَحَبَّة تُعطي ذاتَها إِلى أَقصى الحُدود. هذا هوَ جُنونُ التَّجَسُّد وَهذا هوَ أَيضاً جُنونُ الصّليبِ وَجُنونُ القِيامَة. عِمّانوئيل اللهُ مَعَنا، في وَسَطِ عَتمَةِ عالَمِنا، نورًا يُنيرُنا بِالإِيمان. عِمَّانوئيل اللهُ مَعَنا مُتوارٍ في إِنسانِيَّتِنا وَهوَ الأَرفَعُ عَظَمَةً مِنْ كُلِّ الكائِنات، لِنَجِدَ ذاتَنا فيهِ فَنَعرِفَ الخَلاصَ حَياةً أَبَدِيَّةً بِبُنُوَّتِنا فيهِ وَبِهِ وَمَعَهُ للهِ الآب وَبِقُوَّةِ الرُّوحِ القُدُس. يَقولُ القِدّيس أمبروسيوس: “صارَ اللهُ إِنسانًا، لِيَصيرَ الإِنسانُ إِلَهًا”. إِنَّهُ بِهذا الفِعل بَيَّنَ لَنا أَنَّهُ المَحَبَّة اللَّامُتَناهِيَة وَالخَير الأَسمى الَّذي يُشرِكَنا بِمَجدِهِ.

في وَقتٍ نَنْتَظِرُ مِنَ اللهِ أَن يَتَدَخَّلَ في مُجرَياتِ أَحداثِ التّاريخ حَيثُ الظُّلمُ وَالشَّرّ على مُختَلَف أَنواعِهِ وَأَشكالِهِ، لِيَعُمَّ خَيرَهُ وَسَلامَهُ، يُخبِرُنا الإِنجيل أَنَّهُ قَدْ تَدَخَّلَ في مِلءِ الزَّمَن لا لِيُغَيِّرَ مُجرَياتِ أَحداثِ العالَم، بَلْ لِكَيْ يُعيدَ لَنا هُوِيَّةَ إِنسانِيَّتَنا الَّتي نَجهَلُها، فَمَتى وَجَدناها فيهِ، نَنتَصِرُ عَلى الشَّرِّ بِقُوَّةِ النِّعمَةِ وَالإِيمان. يَقولُ لَنا القِدّيس بولُس: “إذا كانَ اللهُ مَعَنا، فَمَن يَكونُ عَلَينا؟ (…) فَمَن يَفصِلُنا عَنْ مَحَبَّةِ المـَسيح؟ أَشِدَّةٌ أَم ضيقٌ أَم اضطِهادٌ أَم جوعٌ أَم عُريٌ أَم خَطَرٌ أَم سَيف؟ (…) وَإِنّي لَواثِقٌ بِأَنَّهُ لا مَوتٌ وَلا حَياةٌ، وَلا مَلائِكَةٌ وَلا أَصحابُ رِئاسَةٍ، وَلا حاضِر وَلا مُستَقبَل، وَلا قُوَّات، وَلا عُلُوٌّ وَلا عُمقٌ، وَلا خَليقَةٌ أُخرى، بِوِسعِها أَن تَفصِلَنا عَنْ مَحَبَّةِ اللهِ لَنا في المـَسيحِ يَسوعَ رَبَّنا” (رو 8: 31، 35، 38 – 39).

سَيَبقى تَجَسُّدُ الرَّبَّ يَسوع إِبنُ اللهِ عَثارَةً لِمَنْ لا يُؤمِن بِمَحَبَّةِ اللهِ اللَّامُتَناهِيَة، وَسَيَبقى تَجَسُّدُ الرَّبَّ يَسوع الدّواءَ الشَّافي لِلإِنسانِيَّةِ الَّتي أَضاعَت هُوِيَّتَها. في التَّجَسُّدِ استَعادَتْ الإِنسانِيَّةُ كَرامَتَها الّتي هيَ مِنْ كَرامَةِ اللهِ الخالِق. في تَجَسُّدِ الكَلِمَة أَصبَحتِ إِنسانِيَّتَنا طَريقًا إِلى القَداسَة لا بِفَضلٍ مِنْها بَل بِفَضلِ الَّذي قَدَّسَها وَمَجَّدَها.

إِنَّ الأَضواءَ السَّماويَّةَ أَكثَرُ نورًا مِنَ الأَضواءِ الَّتي نَصنَعُها لِنُحدِثَ تَغييرًا في نَمَطِ حَياتِنا، هِيَ عَطيَّةُ الوَحيّ الإِلهيّ وَثَمَرَةُ الإِيمانِ الحَقّ. وَعَطِيَّةُ الآبِ لَنا إِبنَهُ الوَحيد، أَعظَمُ هَدِيَّةٍ على الإِطلاقِ عَرَفتها الإِنسانِيَّةُ وَالخَليقَةُ بِأَسرِها. يَكفينا أَن نَسجُدَ بِإِيمانٍ وَخُشوعٍ وَتَقوى أَمامَ الطِّفلَ يَسوع قُربانُ المَذبَحِ حَتَّى يَتَذَوَّقَ قَلبُنا غِبطَةَ الفَرَحِ وَالسّلام، فَنَعرِفَ أَنَّهُ “هوَ الَّذي هو”، وَالطُّوبى لِمَنْ عَلى مِثالِ رُعاةِ بيتَ لَحمٍ، خَرَجَ مِنْ ظُلمَةِ لَيلِهِ لِيَرى يَسوع الإِلَه في صَميمِ واقِعِهِ الإِنسانيّ، طِفلًا مُقَمَّطًا مُضجَعًا في مِذوَدِ البَهائِم.

“أَمَّا الَّذينَ قَبِلوهُ فَقَدْ مَكَّنَهُم أَن يَصيروا أَبناءَ الله” (يو 1: 12)

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!