مرارة الحلاوة
ومن قلب الملل والركود صودف مرور فريق تبشيري في قريتنا يهدف الى مرافقة روحية لمن قست عليه ظروف الحياة، زارني قسم من هذا الفريق بمرافقة رجل دين وفتاة تعاونه سأسميها “فريدة”، حدثوني عن إله المحبة وعن الرجاء وقوة الصلاة، أمور قرأت عنها من قبل ولكن لم اختبرها، فلقد كنت حتى ذاك الوقت لم اتقدم لقربانتي الأولى، فحتى هذا لم أُعتَبَر مؤهّلة له.
دعاني رجل الدين ومرافقته “فريدة” الى مشاركتهم بمخيم ترفيهي لجماعة تهتم بأشخاص ذوي حاجات خاصة لا سيما المصابين بإعاقات عقلية، كانت تجربة جديدة بالنسبة لي إذ انه للمرة الأولى منذ سنوات اخرج من غرفتي وارى العالم الخارجي وللمرة الأولى على الإطلاق اخرج دون مرافقة اهلي وانام خارج المنزل.
اسبوع عشته وكأني في الجنة ولم يهمني مساواتي بالمعاملة بالأشخاص المجروحين في ذكائهم، فكنت كسجين ذاق طعم الحرية للمرة الأولى. فكل شيء جديد وكل شيء له طعم آخر، وهناك تعمقت صداقتي بـ”فريدة” تعلقت بها بشكل كبير واعطتني الكثير من الاهتمام الذي لم اكن اعرفه قبلاً، وعدتني بأني لن اعاني الوحدة بعد اليوم فهي ستحرص على زيارتي واخبرتني عن حلمها بتأسيس مركز في البترون مع رجل الدين لذوي الحاجات الخاصة ممن يعانون من تأخر عقلي وقالت لي بأني سأكون ركيزة أساسية فيه وبأنني سأعمل معها على مساعدة هؤلاء الأشخاص.
انتهى الاسبوع وعدت الى حيطان غرفتي التي بدت اضيّق مما كانت، وزادت مرارة الوحدة بعد تذوقي لحلاوة الحرية، دخلت في حالة من الاكتئاب النفسي، لم يعد لأي شيء معنى او طعم، اقضي نهاري جالسةً انظر ناحية الطريق الجبلي التي من الممكن أن تمر فيه “فريدة” لزيارتي. كانت السيارات العابرة قليلة، بين الواحدة والأخرى أحياناً أكثر من ربع ساعة، فأمعن النظر بها واصلي أن تحمل واحدة منها صديقتي، ومرت الأيام والشهور والسيارات تعبر دون أن تتوقف أمام منزلي ولا زائر يسأل.
طال الانتظار وأتى الشتاء واقفلت الأبواب والنوافذ وأصبح مقري الوحيد سريري الصغير امضي نهاري مع كتبي والراديو، فهم الاصدقاء الوحيدين الذين لم يفارقوني يوماً. وحننت لأيام كنت لا اعرف فيها غير حيطان غرفتي والسرير وحين كنت اظن ان العالم ينتهي عند حدود النظر من نافذة الغرفة.
كنت كمن يتخبط في بحر هائج يبحث عن النجاة، وهذا الشعور اختبره عند كل مشكلة وصعوبة امر بها فأجد نفسي استميت باحثة عن حل، فلم ارضخ ولا مرة لمشكلة بل كنت ابحث بكل قوتي عن طوق النجاة.
فكتبت رسالة الى رجل الدين الذي تعرفت عليه سابقاً والذي كان يسعى مع الفتاة لتأسيس مركز ذوي الحاجات الخاصة في مدينة البترون ووعدني معها بأن يجدا لي مكاناً فيه، فكتبت له مذكرةً اياه بوعده، فجائني الجواب بعد فترة يخبرني بأن المركز تأسس ودعاني الى النزول الى البترون والإنضمام الى هذا المركز.
ودون أي تفكير جمعت أغراضي وطلبت من أبي أن يوصلني، كانت قفزة في المجهول، لم أفكر بشيء لم يهمني أين أنام وأين آكل وماذا أفعل، كان كل همي الهروب من سجني وصلت إلى البترون وفعلاً كانت قفزة في المجهول، انتهى النهار في المركز وذهب المتطوعون وذوي الحاجات الخاصة كلٌّ الى منزله وبقيت أنا في المركز لا اعرف أين أذهب فلا مكان مجهز لأنام وآكل فيه وبيت اهلي بعيد ولا يوجد هاتف لأتصل بهم.
كان يوجد “بيت ديني” قريب من المركز فذهبت مع رجل الدين أطلب من قاطنيه علّني استطيع أن أجد غرفة لديهن استعملها بشكل موقت إلى أن أجد حلاً بديلاً، ولحسن الحظ تلاقت المصالح بيننا على “الطريقة اللبنانية” فأحد اقاربي البعيدين كان وزيراً للاتصالات في وقتها ومسؤولة هذا البيت الديني كانت بحاجة الى أن يكون لديها خط هاتفي، وعلى أمل أن اتوسط لدى قريبي الوزير (الذي لم التقِ به في حياتي) أن يتكرم عليها بخط هاتفي، فتمت الصفقة.يومها عشت فرحةً لم اعرفها في حياتي فالسجن اصبح ورائي وها إن الحياة بدأت تفتح لي ذراعيها،
وكل ليالي الدرس والمطالعة لن تضيع، أتى الوقت الذي اثبت فيه للعالم بأنه بحاجة لي.
فرحتي لم تدم لأكثر من ساعات ففي المساء زارتني “فريدة” التي كانت وعدتني بنهاية عهد الوحدة، وكانت اول كلماتها في زيارتها: “لماذا اتيت؟ اين ستنامين؟ انا لا استطيع ان اتحمل مسؤوليتك! لا مكان هنا جاهز لك!” كانت تتكلم والسواد يملأ وجهها وكأنني مصيبة نزلت عليها من المجهول، غادرتني وهي تقول: “حاولي أن تتصلي بأهلك وعودي الى قريتك” لم انم تلك الليلة فكأن غربة المكان ووجودي بين اناس لا اعرفهم لم يكفيان فأتت كلماتها لتقتل كل الفرح الذي عشته في مغامرتي الجديدة، لا زلت أذكر الى اليوم مُرَّ الشعور بالوحدة في تلك الليلة، ولكن عندما اتى الصباح قررت أن انسى زيارتها وكل ما قالته وذهبت الى المركز لأبدأ يوماً جديداً من عهد الحرية.
ضم المركز وقتها حوالي خمسة موظفين يتقاضون اجراً شهرياً من رجل الدين وعشرين شاباً وصبية من ذوي الحاجات الخاصة. اتسمت بداية وجودي فيه بخليطٍ من المشاعر والتجارب الجديدة، كل شيء كان جديد عدت كطفل صغير يريد ان يستكشف العالم من حواليه بكثير من الحماسة وروعة البدايات، كان هناك شيء وحيد يزعجني وهو نظرة البعض لي كشخص بحاجة لمساعدة ومرافقة، فأنا اتيت لأُساعِد لا لأُساعَد، وكنت اريد أن تصل هذه الفكرة الى الجميع أريدهم أن يعلموا بأنني شخص راشد، وكنت أعمل بكل قوتي لأثبت ذلك، كنت أول من علم شبيبة المركز كتابة أسمائهم وأول من علمهم الأرقام والألوان، وضعت مفهوماً جديداً غير مفهوم اللعب والترفيه والصلاة، مع عدم تقليلي من اهميتهم ولكن ذوي الحاجات الخاصة بحاجة ماسّة الى الاستقلالية والى تعلم أساسيات الحياة واقلها كتابة الاسم الشخصي وطلب رقم هاتف ذويه.
هكذا أثبت نفسي من الناحية الإيجابية أما من الناحية السلبية فبدأت عادة التدخين.
في نهاية كل اسبوع كنت اعود الى منزل اهلي فأمضي العطلة بالتحضير للدروس والمهارات التي سأعلّمها للشبيبة في الأسبوع القادم.
كنت اوهم اهلي بأنني اتلقى اجراً لقاء اتعابي وذلك لكي يسمحوا لي أن اعود، ولكن في الواقع ما كنت اتقاضى شيئاً أسوةً بزملائي. ولكن بعد فترة وبعد أن لاحظت احدى الأمهات المتطوعات اهمية العمل الذي اقوم به، تكلمت مع رجل الدين واقنعته بضرورة أن يساويني بغيري.
كان أول معاشٍ لي 40000 ل.ل أي اقل من نصف ما يتقاضاه الأخرون، أذكر كلمات رجل الدين عندما اعطاني هذا المبلغ: “هيدا مصروفك هدية مني، ما تصرفيون بلا طعمة وإلاّ ما بعود بعطيكي” هكذا بكل بساطة دون اي تقدير لعملي وتعبي وكأنه يعطي حسنة لفقير معوز، ولكن بقدر ما جرحني ذلك دفعني الى أن اعمل بجهدٍ اكبر ولم يطل الأمر حتى أصبح معاشي يتساوى مع بقية الزملاء.
بقيت في “البيت الديني” مدة شهرين، ولكن خط الهاتف المنتظر لم يصل فبدأت المشرفة تتململ من وجودي، فأصبح ضرورياً أن أجد حلاً بديلاً، ولم يكن أمامي سوى أن أنام في المركز الذي اعمل به، فما اتقاضاه يكاد لا يكفي مصروفي الشخصي فكم بالحري استئجار منزل، وتطوعت فتاتان من زملائي، رحمهما الله، بأن تتناوبان على النوم معي في المركز على مدى ثلاثة ليالٍ اسبوعياً ولكن لا زلت بحاجة لفتاة اخرى تنام معي في الليلة الرابعة فقبلت “فريدة” على مضض بالقيام بالمهمة. فكانت تنام معي في المركز كل ليلة ثلاثاء، وهكذا احسست للمرة الأولى في حياتي بالاستقرار وشعرت بأنني اصبحت عضو فاعل في المجتمع وعملت بكل قدرتي بأن استحق هذه العضوية عن جدارة. فلم اكتفي بعملي بالمركز بل تابعت دروس لاهوت اسبوعية إلى جانب دروس في الموسيقى كما خضعت لدورات تدريبية عدّة في مجال التربية المختصة في أحد أكبرالمعاهد في لبنان، ودخلت بعدة جمعيات كنسية تسعى لتحسين وتطوير المجتمع. حينها لم تكن الكرسي المدولب الكهربائي معروفة في لبنان فكنت استعمل كرسي مدولب عادي وهذا كان يحد كثيراً من حرية التنقل ولكنني كوّنت وبسرعة حلقة من الأصدقاء الذين لم يبخلوا بمساعدتي في التنقل بحرية.
تابعوا قناتنا
https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg
شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!