تابعونا على صفحاتنا

مقالات

كتاب “حزام الإيمان” الفصل الثالث

مراهقة دون بريق

رغم تعبئة وقتي بالدروس واحلام اليقظة كان للشعور بالوحدة حيّزٌ خاص يتسع كل ما زادت سنيني، فأخوتي واقاربي اصبح لديهم اهتماماتهم الخاصة، فأيام اللعب قد ولّت وحل مكانها الفساتين البراقة والتبرج، امور لم يكن لها مكان في حياتي فجسدي المعوج لم تلق به الفساتين وعالمي الذي بدأ يقتصر على غرفة النوم لا يحتاج التبرج، ومما زاد في وحدتي الحرب التي عصفت ببيروت فجعلتنا ننتقل الى قرية اجدادنا “العلالي” وهي قرية نائية في شمال لبنان قليلة السكان.

كان بيتنا هناك مؤلف من عدة طوابق ويحتوي على الكثير من الأدراج، وكانت غرف النوم في الطابق الأخير، غرفتي كانت تحتوي على حمامها الخاص فلا لزوم للخروج منها.

يوماً بعد يوم اصبح عالمي يصغر، نظرات الناس باتت تخنقني وهمساتهم اصبحت ضجيج مزعج، فأخذت القرار بأن ابتعد واكتفي بعالمي الصغير، حتى انني قلبت دورة الساعات فأصبحت أنام في النهار واستيقظ في الليل، هربت من الجميع، هربت من الألم الذي كان يعتصرني حين انظر من نافذتي وأرى من هم في مثل عمري يسيرون يداً بيد يتبادلون الآخبار والأحاديث في وقتٍ كان الصمت رفيقي الدائم يقطعه من حين لآخر صوت المذياع وأغنية فيروز:

قديش كان في ناس عالمفرق تنطر ناس و تشتي الدنيي و يحملو شمسية
و أنا بأيام الصحو ما حدا نطرني
صار لي شي مية سنة مشلوحه بهالدكان ضجرت مني الحيطان و مستحيه تقول
و أنا عيني عالحلى و الحلى عالطرقات غنيلو غنيات و هو بحالو مشغول
نطرت مواعيد الأرض و ما حدا نطرني

ولكن كنت اتابع المقطع الأخير بأمل:

صار لي شي مية سنة عم ألف عناوين مش معروفة لمين و وديلن أخبار
بكرا لا بد السما ما تشتيلي عالباب شمسيات و أحباب يخدوني بشي نهار
و اللي ذكر كل الناس بالأخر ذكرني.

مرت السنين واصبحت في العشرين، أخواتي تزوجن، اخي في المدرسة ووالديّ في رحلاتهما اليومية الى بيروت، زاد الألم وزادت الوحدة والافكار السوداوية، انعصرت روحي وأحلامي داخل جسد مكبّل يبحث عن حريّة هي حق مكتسب لكل انسان واضغاث احلام لمن جسده غير مطابق للمعايير الموروثة.

وكنت اقضي معظم وقتي بالقراءة حتى بلغ مجموع ما قرأته اكثر من ثلاثة آلاف كتاب باللغة العربية واكثر من مئة بالانجليزية، وثّقتها جميعها ولخصتها وكتبت عدد الايام والساعات التي امضيتها لإنهاء كل كتاب، قمت بأبحاث عن تاريخ لبنان والعالم الاسلامي. في قرائاتي لم اتوقف عند موضوع معيّن فكل شيء كان يهمني وكنت اريد ان اعرف كل شيء.

ولكن كان هناك شيء مفقود، كان هناك جوعٌ داخلي الى لقاء، الى حديث، إلى انسان، كان هناك نهر عطاء مياهه جارية ولكن تدور على نفسها فلا مصبّ لها فبدأت تخاف أن تنتن…

أذكر يوماً كنت كالعادة وحدي في المنزل تملكني شعور بالاختناق، اردت الهرب الى مكان ما، اردت البحث عن حريتي الضائعة، قمت من السرير جلست على كرسيّ المدولب جررت نفسي خارج الغرفة ولكي اصل الى باب المنزل كان علي ان انزل ثلاث درجات فنزلت من على الكرسي نزلت الدرج زحفاً وأنا اجر معي الكرسي المدولب، في داخلي كان هناك بركان يغلي وغليانه كان الوقود للقوة التي اتتني يومها، وصلت الى الباب زحفاً وكان لا يزال امامي أكثر من عشر درجات متفرقة لأقطعها وأنا اجر كرسي حديدي مدولب ورائي. بعد أكثر من ساعة من المعاناة وصلت الى طريقٍ مستوٍ، صعدت الى الكرسي وجررت نفسي حوالي العشرين متراً بيدي الوحيدة التي استطيع استعمالها، خارت قواي وبدأت اشعر بنار تشتعل في كتفي، فجلست هناك ابكي لأكثر من ساعة على الطريق العام دون أن يمر أحد وكأنني في غيمة من الضباب تلفني وتخفيني عن العالم بأسره. بعد أن هدأت وبدأ الألم يزول عدت الى المنزل بنفس الطريقة التي خرجت بها، وارتميت على سريري منهكة محطمة، لا أذكر كم نمت ولكن أذكر بأن الحياة اكملت ولم يعرف أحد من اهلي بهذه الحادثة الى اليوم.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!