تابعونا على صفحاتنا

مقالات

كتاب “حزام الإيمان” الفصل الثاني

البداية ولكن!

ولدت في السادس من نيسان ١٩٦٩ فكان استقبالي كالضيف الثقيل الظل، فلقد اتيت الفتاة الرابعة في عائلة تنتظر ولي العهد، وبعد شهرين من ولادتي وفي حين كان الأنسان يضع قدمه للمرة الأولى على سطح القمر كان المرض يضع لمساته الأولى على جسدي: شلل الأطفال. ومن مزحات القدر بأن هذا المرض اتاني نتيجة اعطائي لقاح شلل الأطفال حيث انني تلقيت جرعة اكبر من المسموح بها. غلطة من؟ خطيئة من؟ هل لتتم مشيئة الله؟ الى الآن لم اجد جواب، مع العلم بأنني لم ابحث كفاية، فلطالما لم تهمني الأسباب بقدر ما همتني النتائج.

الأحداث كثيرة ومسبباتها متنوعة ومختلفة أما النتيجة فهي التي تخلق لدينا ردات الفعل وتدفعنا الى تحديد انفعالاتنا وطريقة تأقلمنا معها.

لا اذكر الكثير عن بداية طفولتي، اذكر بعض الهمهمات والتحسرات، ليس علي بل على اهلي الذين المّت بهم هذه المصيبة، فهم اصبحوا بنظر المقربين الضحية وأنا الحُكم المبرم الذي أتى لزعزعة المفاهيم الموضوعة سلفاً لتربية الأبناء: ولادة، مدرسة، جامعة، زواج، وتتكرر الحلقة على مدى الاجيال، أما ان تتغير الخطة وتتبع الولادة اعاقة فهذا موضوع آخر يكتنفه الضياع ويرافقه الحزن والشعور بالمذلة.

الاكثرية من الناس كان لديها حكم مسبق بأنني غير قادرة ان استوعب ما يجري من حولي، وبأن الشلل اصاب عقلي وحواسي قبل جسدي، يرمقونني بنظرات متطفلة وكأنني لا أرى ويتمنون لي على مسامعي الموت الرحيم الذي هو برأيهم الحل الأفضل لمن هم مثلي، كنت اسمع اتسأل لدقائق ثم اتابع اللعب الذي كان يملأ طفولتي في ايام الصيف.

كنت امضي ايامي بين اخوتي واولاد عمي، تارة يحملونني على اكتافهم وتارة اخرى يجرونني بعربة صنعت من سحارة بندورة ووضع لها ابن عمي دواليب دراجة قديمة، فكنا نجول في طرقات بلدتي “الحدد” ونتسلق اشجار “الأكا دنيا” التي تعود لبيت جدي حيث نسرق الحبوب الخضراء الحامضة وكنت انا اول الصاعدين بسبب صغر حجمي وسهولة حملي فكانوا يصعدونني الى الشجرة لأناولهم الحبوب وكانت جدتي رحمها الله غالباً تكتشف فعلتنا فتركض نحونا حاملة عصاها، فيهرب اخوتي وابناء اعمامي وابقى معلقة في الشجرة اتلقى اللوم والتأنيب منها.

ايام الصيف كان يملآئها المرح واللعب، أما ايام الشتاء، حين يبدأ العام الدراسي كنت اعود للوحدة، فالحاقي بمدرسة كان موضوع غير مطروح، فماذا ستستفيد فتاة معوّقة من الدرس؟ لن يوظفها أحد، ولن يتزوجها أحد فلماذا العناء؟ وحتى إن طُرِحَ هذا الموضوع فمن المستحيل أن تجد مدرسة مجهزة قادرة على استقبال احد من ذوي الحاجات الخاصة، والمؤسسة الوحيدة المتخصصة لاستقبال من هم بحالتي اشترطت أن أجري عملية جراحية لتقويم عامودي الفقري ولكن اهلي رفضوا أن أخضع لها فكانت النتيجة أن بقيت في المنزل، ولقد اكتشفت فيما بعد بأن هذه العملية كانت ضرورية جداً ولو اجريتها في حينها لوفرت علي الكثير من المعاناة والألم الذي تعرضت له لاحقاً في حياتي. 

كان كل الأولاد يذهبون للمدرسة وامي تعمل مع ابي في معمل الشوكولا الذي كنا نملكه، فأبقى وحدي في المنزل حيث اتسلى بالألعاب والتلوين او كانت عمتي تأتي وتأخذني احيناً فامضي النهار معها ومع جدتي وعمتي الأخرة التي كانت مصابة بمرض السرطان دون ان تدري وكانت تعاني من حين لآخر بنوبات من الألم والضياع، اما في باقي الأحيان فكانت تجلسني معها واذكر بأنها كانت دائماً تقول لي: “تعي يا عمتي انا وانت المعترين بهالعيلة” ولم افهم حينها ما كانت تقصد ولكنني كنت استمتع بشرب القهوة معها كالكبار، اما اسعد الأوقات فكانت حين تمرض ابنة عمي ولا تذهب الى المدرسة (وهذا كان يحصل بشكل متكرر) فتبقى معي وكنا نلعب سوياً لعبة المدرسة وكنت دائماً آخذ دور التلميذة وهي المعلمة فتعلمني القراءة والكتابة، وكانت هذه اللعبة المفضلة عندي فكنا نلعبها ايضاً في فصل الصيف فأصبح تلميذة لأكثر من عشرة معلمين.

اما التحدي الأكبر في القراءة فكان عندما نجلس امام التلفيزيون وكانوا يعرضون البرامج الأجنبية المضحكة المترجمة فكنت أرى اخوتي يقرأون الترجمة ويضحكون وكنت اصتنع الضحك معهم لأنني لم اكن استطيع قراءة الترجمة، فقررت أن اركز أكثر على القراءة، فكنت اقضي نهاري بين كتب اخوتي المدرسية حيث لم اكن افهم كل ما أقرأ فكانت المجلاّت المصورة افضل معينٍ لي، وطبعاً كانت كلها باللغة العربية.

كان نهار الوحدة طويل ففي كل صباح كانت امي تغادر الى العمل واخوتي الى المدرسة، فكنت اقضي كامل نهاري في السرير ففي تلك الأيام لم يكن اختراع الكرسي المدولب معروف في محيطنا.

كانت امي تترك لي على سريري صينية طعام تكفي النهار كله، وتحت السرير ما يلزم لقضاء الحاجة، فكنت اقضي الوقت بين الكتب والراديو الذي كان خير رفيق لوحدتي لأن التلفاز لم يكن في تلك الأيام يفتتح البث قبل السادسة مساءً.

كان للراديو دور كبير في حياتي فهو كان نافذتي الى العالم الخارجي، وفي احد الايام وبينما كنت اقلّب بين موجاته سمعت بالصدفة عبر اذاعة لندن برنامج تعليم اللغة الانخليزية الذي كان يبث يومياً عند الساعة 7:24 مساءً، وبدأت رحلة جديدة وهدف جديد.

كان يوجد في داخلي شعور أكيد بأنه سيأتي يوم وسوف استعمل ما ادرسه، وهذا الشعور كان دافعي للاستمرار والانكباب على القراءة والكتابة بِنهم كبير، لم يكن نظري يقع على كتاب إلاّ وكنت أقرأه عدة مرات الى أن افهم كل كلمة فيه، كنت استمتع كثيراً عندما يضعنا والدي في السيارة لنذهب في نزهة بعيدة فهذه فرصة للتمرن على قراءة اللوحات الإعلانية حيث كنت اتحدى ذاتي بالقراةء بشكل سريع قبل ان تمضي السيارة ويختفي المشهد.

وجائزتي الأكبر تكون حين تقف السيارة لسبب ما فأفتح الباب وأضع رأسي خارجها واستمتع برؤية السماء دون حاجز زجاج النافذة، واتنفس الهواء الخارجي الذي لا تملأه رائحة الغرف المقفلة، وتلامس قدماي الأرض الغير مرصوفة بالبلاط.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/AllahMahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعة “الله محبّة” على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك وانستغرام ويوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضئ بوجهه عليك ويرحمك وليمنحك السّلام!