تابعونا على صفحاتنا

مقالات

فرنسيس الغريب والحاج

فرنسيس الغريب والحاج

موقع Allah Mahabba – فرنسيس الغريب والحاج

ما زالَت قَداسَةُ فَرنسيس الأَسّيزيّ تُلقي بِأَنوارِها أَضواءً مُتَلَألِئَةً رَجاءً وَفَرَحاً على عالَم اليَوم، تَجتَذِبُ إِلَيها النُّفوس الباحِثَة عَن الحَقّ وَالحُبِّ وَالجَمالِ وَالسَّلام، عَن وَجهِ يَسوعَ الإِلَهَ وَالإِنسان. ما زَالَت قَداسَتُهُ تَطرَحُ السُّؤالَ تِلوَ الآخَرِ على عَقلِنا المادّيِّ وَالحِسابيّ وَالعِلميّ، فَنَحتارَ أَمامَ سِرّ هذا الشَّابّ المـُغامِر المـُفعَمِ بِالإِيمانِ وَالحَياة، صاحِب الأَحلامِ الكَبيرَة، الثَّائِرِ التَّائِب المـُعاكِسِ لِتَيَّار العالَم في عَصرِهِ وَعلى طولِ خَطِّ التَّاريخ، وَالشَّاهِدِ لِقُوَّةِ النِّعمَةِ الإِلَهِيَّة. هوَ الَّذي أَحَبَّ يَسوع أَبعَد مِن حُدودِ الجُنون، فَبَقِيَ قَلبُهُ يَنبُضُ صَلاةً حَيَّةً: “إِلَهي وَكُلّي”، وَ”الحُبُّ غَير المـَحبوب”. فَصارَ في الكَنيسَةِ “مَسيحاً آخَر”، وَفي العالَمِ وَالكَونِ بِأَسرِهِ “أَخاً كَونِيّاً شامِلاً” لِكُلِّ المـَخلوقات.

ماذا يُعَلِّمنا فَقيرُ أَسّيزيّ مِن خِبرَتِهِ الإِنسانِيَّةِ وَالرُّوحِيَّة العَميقَة؟ ماذا نَتَعَلَّمُ مِن قَداسَتِه، حَتَّى نَتبَعَ على مِثالِهِ الرَّبَّ وَالمـُعَلِّمَ يَسوعَ المـَسيح؟

مِن بَينِ كَلِماتٍ كَثيرَةٍ قالَها نَختارُ قَولًا واحِداً: “نَحنُ غُرَباءٌ وَحُجَّاجٌ في هذا العالَم”، فَفيهِ نَجِدُ اختِصاراً واضِحًا وَصَريحًا لِمَسارِ حَياتِهِ الإِنسانِيَّةِ وَالرُّوحِيَّة، إِن في عَلاقَتِهِ مَعَ بَيتِهِ الوالِديّ أَو حَتَّى في عَلاقَتِهِ بِرُهبانِيَّتِهِ وَمَعَ العالَم. في تَغَرُّبِهِ هذا إِنتِماءٌ كامِل لِشَخصِ المـَسيحِ وَاقتِداءٌ بِهِ، وَفي طَريقِ حَجِّهِ خِدمَةٌ لِمَلَكوتِ الله، فيهِ تَحَقَّقَ قَولُ الرَّبّ: “أَنتُم في هذا العالَم، وَلَستُم مِن هذا العالَم”. لِتَغَرُّبِهِ وَلِمَسارِ حَجِّهِ رَونَقٌ خاصٌّ وَمُمَيَّزٌ، إِنَّهُ نَشيدُ الفَقرِ وَالفَرَحِ وَالسَّلام.

يَومَ تَرَكَ فَرَنسيسُ بَيتَهُ الوالِديّ هُروبًا مِن غَضَبِ والِدِهِ، بَدَأَت مَسيرَةُ تَغَرُّبِهِ، وَذَلِكَ بَعدَما كانَ قَد التَقى بِشَخصِ الأَبرَص، فَباتَ يَشعُرُ عَلى مِثالِهِ أَنَّهُ مَنبوذٌ وَمَتروكٌ وَمَرفوضٌ مِن أَهلِ بَيتِه. حينَها بَدَأَ يَتَسَّولُ في شَوارِعِ مَدينَتِهِ كَفَقيرٍ وغَريب. لَقَد تَعَلَّمَ مِن هَذِهِ الخِبرَة روحيَّةَ الفَقر الإِنجيليّ الَّذي غايَتُهُ الحُرِّيَّة الدَّاخِلِيَّة، لا مُحاباةَ الوُجوه، وَلا حَياءَ وَخَجَلَ كِبرِياءِ الأَنا. فَلَم يَكُن زُهدُهُ رَفضًا لِلعالَم، بَل تَسامِيًا عَن المادِّيَّاتِ وَالحاجات، لا كَفِعلِ تَعالٍ وَمَقتٍ لَها، بَل كَجَوابٍ لِتَعَلُّقِهِ بِيَسوع الفَقير، وَبِهذا الفِعل وَضَعَ سُلَّمَ أَولَوِيَّاتِه. لَقَد عَرَفَ على مُستَوى الإِختِبار “أَنَّ الحَياةَ أَعظَمَ مِنَ الطَّعام”، عَرَفَ قُوَّةَ العِنايَة الإِلَهِيَّة، مِمَّا جَعَلَهُ يَغرَق مُتَأَمِّلًا بِمَعاني الصَّلاةِ الرَّبِّيَّة، الَّتي أَصبَحَت أَبعادُها مَشروعَ حَياتِهِ بِرُمَّتِها، مِنَ اللَّحظَةِ الَّتي صَرَخَ فيها “الأَبانا” أَمامَ والِدِه بيترو بيرناردوني، وَأَمامَ الأُسقُف وَالجَمع الحاضِر مِن أَهلِ مَدينَتِهِ وَفي ساحَتِها.

أَحَبَّ فَرَنسيسُ فَضيلَةَ الفَقرِ وَأَعلاها شَأناً، وَقالَ فيها: “هيَ طريقُنا إِلى أَرضِ الأَحياء”، فَكانَت لَهُ في رِحلَةِ تَغَرُّبِهِ سِلاحًا رادِعًا يَحفَظُهُ مِنَ الإِنحِيازِ لِأَيّ شَيءٍ يَفصِلهُ عَن مَحَبَّتِهِ لله. هُنا يَتَّضِحُ لَنا أَنَّ الفَقرَ الَّذي عاشَهُ كانَ يَعني مَحَبَّتَهُ لِيَسوعَ الفَقير وَالمـَصلوب وَقبولِهِ بتَواضُعٍ لِضُعفِه وأَصغرِيَّتِهِ وَهشاشَتِه. لَقَد تَعَلَّقَ بِوَحيدِ الآب، وَلَم يَشَأ أَن يَتَعَلَّق بِشَيءٍ سِواه، وَرُغمَ ذَلِكَ كانَ مُتَضامِنًا مَعَ فُقَراءِ العالَمِ وَالإِنسانِيَّةِ بِرُمَّتِها، لِذَلِكَ حَمَلَ رِسالَةَ الإِنجيل، داعِياً النَّاسَ إلى السَّلامِ وَالمـُصالَحة، وَلَيسَ إلى الزُهدِ الخاطِئ.

قَبِلَ فَرَنسيسُ كَمُتَسَوِّلٍ فَقيرٍ عَطايا الرَّبِّ لَهُ، وَمِنها الإِخوَة، وَبَعدَما كَسَرَ مَعَهُم الخُبزَ وَالكَلِمَة، لِيعيشوا مَعاً نَهجَ الإِنجيلِ المـُقَدَّس، كانَ عَلَيهِ أَن يَتبَعَ بِلَيْلِهِ المـُظلِم مُعَلِّمَهُ يَسوع، فَلَم يَعُد للإِخوَةِ بِمَثابَةِ المـُؤَسِّسِ وَالمِثال وَالمـُلهَم، بَل أَضحى بالنِّسبةِ لهُم عِبئًا، إِنَّهُ “الجاهِل وَالأُمّيّ”. صارَعَ فَرَنسيسُ ذاتَهُ، وَأَرادَ استِعادَةَ رُهبانِيَّتِهِ إِلى أَحضانِهِ، إِلى أَن أَفهَمَهُ الرَّبَّ مَعنى الفَقرَ بِجَذرِيَّتِهِ وهوَ أَن يَرُدَّ لَهُ كُلَّ خَيرٍ وَبِأَن يُسَلِّمَ أَمرَهُ وَمَصيرَهُ لِمَشيئَتِهِ القُدُّوسَة وَالصَّالِحَة، عِندَئِذٍ أَخلى ذاتَهُ على مِثالِ مُعَلِّمِهِ فَعَرَفَ الفَرَحَ الحَقيقيّ، وَاقتَبَلَ سِماتَ آلامِ يَسوع في جَسَدِهِ الضَّعيف، لِيُصبِحَ “مَسيحًا آخَر”، وهوَ مُجَرَّدٌ مِن كُلِّ شَيء.

لَقَد كانَ لِلحَجِّ مَكانًا خاصّاً في تَوبَتِهِ أَوَّلًا وَفي رِسالَتِهِ التَّبشيريَّة ثانِياً، وَبَعدَما كانَ يَقصُدُ الأَماكِنَ المـُقَدَّسَة كحاجٍّ تائِب، أَصبَحَ يَتَقَصَّدُ الحَجَّ إِلى كُلِّ إِنسانٍ يَلتَقيهِ، لِأَنَّهُ عَرَفَ على مُستَوى اللَّحمِ وَالدَّمِ وَالرُّوح مَحَبَّةَ المـَسيح الَّذي أَصبَحَ غَريبًا عِندَنا وحاجّاً إِلى كُلٍّ مِنَّا. أَصبَحَ فَرَنسيسُ رِسالَةً سَماوِيَّةً هوَ المـَطبوع بِآلامِ المـُخَلِّصِ الإِلَهيّ. لَقَد جَعَلَت مِنهُ النِّعمَةُ الإِلَهيّة “أَخاً كَونِيًّا شامِلًا”، فَأَشارَ إِلى صَلاحِ اللهِ وَجَمالِهِ في جَميعِ مَخلوقاتِهِ فَتَغَنَّى بِأُخُوَّتِها كَعَلامَةٍ لِلمُصالَحة الَّتي حَقَّقها يَسوع-آدَمُ الجَديد، وَإِشارَةً إِلى غايَةِ وجودِها.

عِندَما لاقى فَرَنسيسُ “أخيهِ الموت الجسديّ”، طَلَبَ أَن يُعَرَّى مِن لِباسِهِ إِشارَةً إِلى فَقرِهِ وَتَغَرُّبِهِ في هذا العالَم، وَتَعبيرًا حَقيقيّاً عَن عَودَتِهِ إِلى حالَةِ آدَمَ الأُولى، وَبِهذا دَلَّنا عَلى السَّيرِ عُراةً في عَراءِ هذا العالَم، وَنَحنُ شاخِصينَ إِلى مَنارَةِ صَليبِ يَسوع، وَإِلى ميناءِ قِيامَتِهِ المـَجيدَة.

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/channel/UCWTL4VXQh38PrPBZvVSZGDQ

شكراً لزيارة موقعنا وقراءة فرنسيس الغريب والحاج. لمشاركته مع أصدقائك ومتابعتنا على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك، انستغرام، يوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت، وأن يعطيك نعمة القداسة لكي تكون ملحاً للأرض ونوراً لعالم اليوم!