تابعونا على صفحاتنا

مقالات

من أجل عبادة قربانيّة مثمرة

عبادة قربانيّة مثمرة

يُواجه العبادة القربانيّة اليوم تحديَّان أساسيّان في داخل الكنيسة، الأوّل روح العصر المبنيّة على الغنوصيّة الحديثة والتي تمجّد العقلنة المطلقة والمعرفة الفكريّة، وتجد صعوبة في فهم ما الذي يُمكن أن تقدّمه إلى إنسان اليوم ساعةً من الجلوس أمام القربان؛ أمّا التحدي الثاني فيكمُنُ في روح البلاجيّة الجديدة التي تَظهر من خلال القساوة الروحيّة، والتمسّك الأعمى بالتقاليد الكنسيّة، فهي تُساوي الأسرار بالعبادات التقويّة والشعبيّة، وتسعى إلى نيل الخلاص من خلال الأفعال الإراديّة البطوليّة مثل البقاء ساعات طويلة أمام القربان.
تعود العبادة القربانيّة في جذورها التاريخيّة، إلى تلك اللحظات التي فيها يُرفع القربان المقدّس على المذبح أثناء الذبيحة الإلهيّة؛ ودفع الحس الإيماني عند المؤمنين إلى تمييز وجود ثمار روحيّة متأتيّة من السجود أمام السرّ العظيم. وفي القرون الوسطى، أخذت تلك العبادة القربانيّة بُعدًا جديدًا في حياة الكنيسة، إلى أن بلغت إلى الشكل الذي نعرفه اليوم.
ترتبط العبادة القربانيّة على نحوٍ لصيق بسرّ الإفخارستيا، إذ تنبثقُ منه وتقودُ إليه، وخارجًا عنه يستحيل الحديث عن عبادة إفخارستيا مثمرة.
فيي البداية، سيتم التطرق إلى بعض النقاط الأساسيّة المتعلّقة بسرّ الإفخارستيا والتي هي على ارتباطٍ وثيق بالعبادة القربانيّة، ليتمّ بعدها عرض الأسس لعبادة قربانيّة مُثمرة.


أوّلًا: العبادة القربانيّة، من سرّ الإفخارستيا

تقوم العبادة القربانيّة على التأمّل والدخول بسرّ يسوع المسيح الإفخارستي-الفصحي. تنطلق المبادرة في الإفخارستيا من الله الآب بواسطة الروح القدس إلى الإنسانيّة المتألّمة، لتشترك في بُنوّة وإنسانيّة وجسد الابن الوحيد يسوع المسيح، وعبّر اللاهوتي الأرثوذكسي نيقولا كابازيلاس عن ذلك قائلًا: “يغدو بالإفخارستيا جسد المسيح جسدنا، ويَغدو دم المسيح دمنا، فتصبح حياة المسيح حياتنا، وبنوّة المسيح لله الآب بنوّتنا”.
إذَا، يتناول المؤمن في الإفخارستيا ما هو مدعوٌّ ليصيره أي جسد المسيح، فيعيش اختبار القدّيس بولس القائل “لست أنا الحي إنّما المسيح حيٌّ فيَّ” (غل 2: 20)، ويشترك من خلال هذا السرّ مع حياة الابن ومع الإنسانيّة جمعاء من خلال الطبيعة الإنسانيّة التي أخذها شخص الابن في التجسّد. وكما قامت حياة يسوع العلنيّة على صنع مشيئة الآب “لتكن مشيئتك” وعلى بذل الذات في سبيل الإنسان “ما من حبٍّ أعظم من أن يبذل الإنسان نفسه عن أحبّائه” (يو 15: 13)، كذلك يشترك المؤمن من خلال الإفخارستيا في بنوّة الإبن الوحيد، فيغدو السعي لتمييز مشيئة الآب وإتمامها طعامه، وبذل الذات في الابن من أجل خلاص النفوس وبناء الكنيسة رغبة قلبه.
لابدّ من الإشارة إلى مقدار التماهي بين سرّ الإفخارستيا وسرّ الكنيسة، إذ كلاهما حقيقة جسد المسيح، وكان يُطلق في القرون الوسطى على الإفخارستيا تسمية جسد المسيح السريّ (misterion)، إذ تصنع الكنيسة الإفخارستيا، والإفخارستيا تصنع الكنيسة؛ والكنيسة والإفخارستيا “هو” سرّ جسد المسيح الحاضر في العالم.
في الختام، تتضرّع الإنسانيّة في الاحتفال الافخارستي إلى الله، ليَحلَّ روحه القدّوس على التقدمة، ومن ثَمَّ تستعدّ لاستقبال عطيّة الآب إلى العالم “يسوع المسيح”، من خلال الروح القدس.، وبعد المناولة، تنطلق الجماعة الإفخارستيّة إلى العالم حاملةً سرّ الخلاص ، لتعود من جديد وتقدّمه قربانًا على مذبح الربّ.

ثانيًا: من العبادة القربانيّة إلى الافخارستيا

عطيّة الله
لا تنفصل العبادة القربانيّة عمّا سبق وتقدّم. فالسجود للقربان تأمّل بعطيّة الله للعالم، وحضوره الحقيقي الدائم في التاريخ، في وسط الجماعة المصلّية، والإنسانيّة المتألّمة، والخليقة التي تئنُّ وتتألّم بانتظار الخلاص. تُدخلنا هذه العبادة في سرّ الله، إذ تحمل على التساؤل حول هويّة الإله الذي يرتضي أن يُجالس خليقة صنعها من طينٍ ونفخ فيها الحياة، لكنّها امتلأت كبرياءً وتمرّدت عليه. ففي تلك العبادة ندخل في مجانيّة حبّ الله ورحمته “في ذلك اليوم تعرفون أنّي في أبي، وأنتم فيَّ وأنا فيكم” (يو 14: 21)، ونتعلّم كيف نغدو عطيّةً في الابن إلى العالم.

الشركة في الجسد الواحد-الكنيسة
العيون المحدّقة في جميع أنحاء العالم إلى سرّ الابن الوحيد، “الإله من إله” والذي “صار إنسانًا”، والحاضر حقيقةً أمامها إفخارستيًّا، يقودها إلى الدخول في سرّ “شركة” الله (كما سبق وأشرنا) وفي سرّ الإنسان (وهذا ما سنتطرّق إليه الآن).
يُدخل حضور الابن الإفخارستي الساجد في سرّ آدم الجديد والإنسانيّة الجديدة الممجّدة في شخص الابن الوحيد. كان المنّ- الذي منحه الله لشعب إسرائيل في الصحراء كقوتٍ يمنحهم القوّة على تحمّل المشقات إلى حين بلوغهم أرض الميعاد-، رمزًا للخبز الحقيقي، جسد الابن الوحيد، قُوت الكنيسة السائرة في العالم باتّجاه الملكوت. يتغذّ جميع أعضاء الجسد من الخبز الواحد، فينموا في سرّ الكنيسة الواحدة، جسد الابن الوحيد السائر نحو الملكوت.
تُدخِلُ العبادة القربانيّة الإنسانيّة المخلّعة والمنقسمة على ذاتها في سرّ الكنيسة: سرّ الشركة. ويقود التأمّل في جسد الابن الوحيد، إلى الغَوص في سرّ المعموديّة الذي يجعل من المؤمنين أعضاء في جسد المسيح (1قور 12: 27) وأعضاءٌ بعضهم لبعض (أف 4: 25)، ولأنّهم يشتركون معًا في الخبز الواحد، فإنّه يجعل منهم جسدًا واحدًا (1قور 10: 17). وتجدر الإشارة في هذا السياق أنّ بولس لايفصل بين جسد المسيح-الكنيسة وجسد المسيح-الإفخارستيا، بقوله”أنتم جسد المسيح” (1قور 12: 27).
إذًا، تُدخل العبادة القربانيّة في سرّ الكنيسة، وتشدّد روابط الوحدة بين جميع أعضائها، وخير مثال على ذلك ما يقوله القدّيس أغوسطينوس: “فإذا كنت أنت تُعد من جسد المسيح وأعضائه، فإنّ سرّك هو الذي يوضع على مائدة الربّ: وأنت في المناولة تقبل سرّك”، وفي السجود القرباني تتأمّل سرّك.

محبّة الخليقة
تقودُ عبادة الحاضر إفخارستيًا تحت شكل الخبز، إلى التأمّل والتساؤل حول معنى الخليقة، ودعوة الطبيعة والخليقة في تاريخ الخلاص. كذلك، تُدخل في مدرسة محبّة الخليقة، وتحثّ على إعادة اكتشاف حضور الله من خلالها، ألم يُقَلْ أنّ أوّل كتاب مقدّس ليس بمكتوب بل مخلوق، ويُقصد بذلك “الطبيعة ” التي خُلقت بكلمة خرجت من فم الله الذي “قال: فكان…”؛ فالإفخارستيا مدرسة محبّة الخليقة.
يُذكّر الجلوس أمام ذلك القمح الذي تحوّل بجهد الإنسان إلى خبزٍ ، وبحلول الروح القدس إلى جسد القائم من بين الأموات، بدعوة الإنسان ووساطته الكهنوتيّة بين الخليقة والله. يقول كاليستوس وير لم يختر الله الخبز والخمر علامة لحضوره الحقيقي، بل اختار الخبز والخمر، اللذيْن من خلال حلول روحه القدس عليهما، يُصبحان من العالم الجديد، لأنّهما يمرّان بسرّ الإبن الفصحيّ، الذي فيه كلّ شيء أصبحَ جديدًا. فكلّ ما هو مخلوق مدعو ليُصبح من الخليقة الجديدة أي جسد المسيح القائم. يقول اللاهوتي المعاصر ماركو روبنيك “في العبادة القربانيّة نشهد أنّ الإنسان ليس باستطاعته أن يخلُصَ دون الخليقة”.

التوق إلى الملكوت
تولّد العبادة القربانيّة التوق إلى معاينة وجه الآب. فالقربان هو شخص الابن الذي يُدخل الإنسان بالروح القدس في شركة الآب. تنمّي العبادة القربانيّة في المؤمن الرغبة في الاتّحاد الكامل مع الله، وتجعل من حياته إفخارستيا، أي فعل شكرٍ لله الآب الذي ارتضى أن يُشارك الإنسان حياته، ومحبّته الأبديّة. حبّ الآب للإنسان هو شخص يسوع المسيح الحاضر الذي من خلال جسده الإفخارستي يُشرِك الإنسان في بنوّته لله الآب. ولأنّ الموت لا سلطان له على الحبّ (1قور 13: 13)، يُعدّ القربان دواء لعدم الموت، إذ يُدخل الإنسان في شركة المحبّة مع الله التي تغيّر مصير الإنسان، يقول تيار دو شردان ” يُحوّل الروح القدس المؤمنين من خلال جسد المسيح، ويدخلهم إلى الملكوت الذي افتتحه الابن بموته وقيامته”.

البعد الإرسالي
وفي السجود للقربان دعوة إلى الإنطلاق وإعلان الكريغما أي البشرى السارّة، على مثال مريم الساجدة على أقدام القائم من بين الأموات، والتي تحوّل سجودها إلى إرسال تُعلن فيه البشرى السارة: الربّ قام من بين الأموات (متى متى 28: 9-10).
تُثمر العبادة القربانيّة في حياة المؤمن حياةً إفخارستيّة، تقوم على تمييز مشيئة الربّ والسعي إلى إتمامها في حياته اليوميّة. فاللقاء مع الابن الذي خرج من لدن الآب منذ الأزل، وخرج ليلتقي بنا في سرّ القربان، يولّد في المؤمن قوّة تدفعه إلى الخروج من الذات واللقاء بالآخر بمجانيّة وحريّة، على غرار اللقاء الذي اختبره مع الحاضر إفخارستيًّا في سرّ القربان. مجالسة القائم من بين الأموت، والإصغاء إليه (وهو كلمة الله الأزليّة)، ينمّي في قلوبنا من خلال روحه القدّوس حبًّا لإتمام مشيئته، (وهي مشيئة الآب أيضًا)، ألا وهي بناء الكنيسة. كذلك، يختبر المؤمن في العبادة القربانيّة أنّ الابن عطيّة الآب من أجل خلاصه وخلاص العالم أجمع، ويتعلّم كيفيّة استقبال تلك العطيّة في حياته، ويتحوّل بنعمة من الروح القدس وبمقدار استقباله لها إلى عطيّة إفخارستيّة (في الابن الوحيد)، لعائلته ورعيّته ووطنه وشعبه على مثال شربل، ورفقا، ونعمة الله الحرديني.
يُعاين العابد للقربان سرّ الحبّ الذي يُخلي ذاته “آخذًا صورة عبدٍ” (فل 2: 7)، فتنمو فيه سرّ الإنسانيّة الجديدة التي تُثمر تواضعًا ووداعةً وإخلاء الذات، يتجلّى من خلالها سرّ جسد المسيح الحاضر في العالم. يقول مار أغوسطينوس “في الإفخارستيّا عندما نجيب آمين، نصبح السرّ الذي نتناوله. فكن حقيقة ما تتناوله لأنّك بإجابتك تلك، أعربت عن استعدادك الصريح لتصبح جسد المسيح”. يتحّد العابِد من خلال الإفخارستيا بالإنسانيّة الجديدة القائمة على المحبّة كشركة مع الله والإنسان تحت شكل بذل الذات في المسيح، فتُشعل الرغبة في القلوب لإكمال مانقص من آلامه في سبيل جسده الكنيسة (كول 1: 24).

في الختام
يُعبّر سفر الرؤيا بوضوح عن ماهيّة العبادة القربانيّة ” يخرّ الأربعة والعشرون شيخًا قدّام الجالس على العرش، ويسجدون للحيّ إلى أبد الأبدين، ويطرحون أكاليلهم أمام العرش…” (رؤ 4: 10). يقول البابا فرنسيس “يعبد الإنسان ذاته، إن توقّف عن عبادة الله”. تُساعد هذه العبادة على الخروج من الحبّ النرجسي للذات إلى حبّ الله الآب في الابن بقوّة الروح القدس، فيُثمر “بعضٌ مئة، وآخر ستين، وآخر ثلاثين (متى 13: 8).

تابعوا قناتنا

https://www.youtube.com/allahmahabbaorg

شكراً لزيارة موقعنا وقراءة ” من أجل عبادة قربانيّة مثمرة “. ندعوك لمشاركة هذه المقالة مع أصدقائك ومتابعتنا على مواقع التواصل الإجتماعي على فيسبوك، انستغرام، يوتيوب وتويتر. نسأل الله أن يضع سلامه في قلبك أينما حللت ومهما فعلت وخاصّة في لحظات الخوف والألم والصعاب. ليباركك الربّ ويحفظك، ليضىء بوجهه عليك ويرحمك وليمنحكم السّلام!