أعظم ما صنعه الرَّبُّ يسوع، مؤسّس الكنيسة ومثالها وضمانتها أنّه نزل من عرش ألهوته ودخل التاريخ متّحداً بالإنسان بشكل جوهري، آخذاً كلّ عوارض طبيعته البشريّة وضعفها وآلامها وأحلامها. لقد عُرِف بصديق الفقراء والمقهورين والخطأة كيما يعبّر عن تضامنه مع الإنسانيّة المجروحة، ثمّ في العشاء السريّ بيّن أنّ اتحاده بالبشر لن يكون ظاهريًّا أو ثانويًّا إنَّما جوهريًّا: “من أكل جسدي وشرب دمي، فلَهُ الحياة الأبديّة”، ثمّ وعد تلاميذه بأن يبقى على هذه الحال حتى انقضاء الدهر: “وأنا معكم حتى إنقضاء الدهر”. كنيسة اليوم، وبالأخصّ الكنيسة في لبنان، عشنا ونعيش أنواعاً تصاعديّة من الإنفصال عن شعبنا:
أولاً، أُقفِلَت الكنائس، ولا زالت مقفلة، فاستعضنا عن ذلك بوسائل التواصل الإجتماعي، ووسائل الإعلام المسموع والمرئي دون أن ندرك فعليًّا نتائج هذه الوسائل. هل فعلاً ردمت الهوّة أم لا؟ لا ندري، لأنّه ليس هناك من دراسات قُمنا بها لندرك حقيقة الأمر. رُبّ قائلٍ يقول: إنّنا أجبرنا على ذلك، وما قمنا به كان المقصد منه حماية الناس من المرض، وهذا صحيح، ولكن إذا زدنا على إقفال الكنائس وجوه الإنفصال الأخرى نكتشف مدى خطورة الوضع.
ثانياً، عدم اتّخاذ الخطوات الشجاعة والجريئة تجاه وضع شعبنا الإجتماعي. الناس تجوع، الناس تحصل على نصف معاش، الناس خسرت وظائفها وبالتالي معاشها، الناس طُردت من منازلها، الناس انتحرت بسبب عوزها. ماذا فعلت الكنيسة؟ حتى الآن لم نرى من قبلها مبادرات لسدّ عوز الناس، لم نأخذ مواقف قاطعة بشأن حكّامنا الذين سرقوا الناس، ونهبوا أموالهم وهرّبوها الى الخارج، لم ننزل الى الشارع لنعبّر عن رفضنا لظلم الحكّام وإذلالهم لشعبنا، لم نتحرّك ضدّ السياسات الماليّة، أو سياسات المصارف، التي اتّهمنا بالتعامل معها وعلى طريقتها، وليس على طريقة الإنجيل، المساومة والمجاملة مع الحكّام الفاسدين الذين يفرضون الفساد كقيمة نهائية للعيش في لبنان. إنكفاء الرهبانيّات عن دورها الإجتماعي، هي التي من صلب رسالتها الإهتمام بالشعوب وفي كلّ المجالات، والإنشغال بواقع ومستقبل مؤسساتها التي أشرفت على الإفلاس.
ثالثاً، التمادي في حماية مشوّهي صورة الكنيسة، ماليًّا وأخلاقيًّا، وسلطويًّا. إنّ الصمت، أو التستير، أو حماية هؤلاء الأشخاص من رجالات الكنيسة وشركائهم سيقتل الوجدان الديني لدى المؤمنين، وسيبتعدون عن الكنيسة وجدانيًّا وهذا الأخطر.
هذا الإنفصال من قبل ممثلي الكنيسة عن حال شعبهم هو بمثابة قطع الرأس عن الجسد، وهل للجسد حياة من دون الرأس؟ كنيستي، الخطر الخطر، هو أن نبقى نحن كما نحن ولا نتحرّك نحو شعبنا، ولكن الأخطر هو أن يرحل شعبنا عن كنيسته التي فقد الثقة برجالاتها.
صرختي اليوم، كإبنٍ وليس كمنتقد، أن نعود إلى رسالتنا الحقيقيّة، ونموت عن شعبنا ليقوم شعبنا من قبوره التي بناها له حكامّه الفاسدين الظالمين. أن نكون مع الحقّ والحقيقة، أن نكون ملح الأرض ونور العالم، أن نكون رجاء الناس في وطنٍ قتل فيه حكّامه كلّ أملٍ بغدٍ أفضل. فلنَخلَع ثوب الخوف ونكون ضمير لبنان، وسند الشعب ونعش الحكّام الفاسدين.